1 الثمن الباهظ لغياب "المغرب العربي '' الخميس يناير 21, 2010 8:43 am
doukkala
مشرف عام
فرانسيس جيليس :
لا يزال النزاع حول الصحراء الغربية يمثّل عقبةً رئيسية أمام التعاون الضروري بين المغرب والجزائر، ويبطىء التبادل الإقليمي الذي يمكن أن ينمو بينهما مع تونس. مع هذا، في حين يحظى التكامل الكامن بين الدول الثلاث بتشجيع الاتحاد الاوروبي، فإن التعاون السياسي والاقتصادي يمكن أن يساعد على حلّ العديد من المشكلات على الشاطىء الجنوبي للبحر المتوسط
على بعد بضعة كيلومترات من وجدة، عاصمة المقاطعة الشرقيّة في المغرب، يجد الزائر نفسه إزاء وضعٍ غريب: إذ أن الطريق إلى الجزائر مقطوعة بآليّات الأشغال العامة، فيما يتسكّع بعض رجال الأمن ويسود هدوءٌ غريب في مكانٍ يفترض أن يكون نقطة عبورٍ مكتظّة بين الدولتين الكبريين سكّاناً في شمال إفريقيا. ويعكس هذا الصمت الثقيل الخلاف القائم بين الرباط والجزائر العاصمة، منذ عمر جيلٍ. في المقابل، وفي مكانٍ أبعد صوب الجنوب، في فيكيك، يجتاز الجنود الجزائريون الحدود بأمانٍ لكي يشربوا القهوة في أراضي المملكة، بينما المغاربة يزورون أقاربهم في الجمهورية من دون أن يجد أحدٌ ما يضير في هذه المبادلات العائلية.
ويمكن ترجمة "غياب التكتل المغاربي" على تنويعات مختلفة: من الطاقة إلى المصارف أو النقل أو الزراعات الغذائيّة أو التربية أو الثقافة أو السياحة. فالتبادل التجاري بين دول شمال إفريقيا لا يتخطّى 1.3% من مجمل مبادلاتهم الخارجيّة؛ وهذه أدنى نسبة مناطقيّة في العالم. وقد أبرز مؤتمران عقدا تحت عنوان "من كلفة غياب التكتل المغاربي إلى نمر شمال إفريقيا [1]" وتقريرٌ صدر عن "مؤسسة بيترسون [2]" للأبحاث، بشكلٍ وافٍ المنافع التي يمكن أن تستفيد منها شعوب المغرب العربي لو أنّ حدودها كانت مفتوحة بعضها على بعض. وعندما يدعى أصحاب الشركات المغاربية إلى اجتماع، فإنّ معظمهم لا يبدي سوى رغبة واحدة، وهي التمكُّن من الانتشار في مساحة تتخطّى الانقسامات الوطنيّة.
ويدفع الفقراء كما الأغنياء ثمن عجز النخب الحاكمة عن وضع مشروعٍ مشترك. ففيما يشهد العالم تحوّلات لا سابق لها منذ العام 1945، يبقى المغرب العربي غائباً أكبر عن الساحة. حيث لم تقدّم دول المنطقة أيّة عروض للاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بموقعها في مسار برشلونة [3]. فهل هي ستتحرّك أكثر إزاء "مسار برشلونة - الاتّحاد من أجل المتوسّط"؟ لا شيء يسمح بالتفاؤل بهذا [4].
يملك المغرب العربي العديد من الموارد: وفرة من النفط والغاز وأنواع الفوسفات، وإنتاجٌ زراعيّ متنوّع بنوعيّة جيّدة غالباً - لكنّه يواجه عجزاً متنامياً في إنتاج الحبوب - إضافةً إلى مشاهدٍ طبيعيّة رائعة تجتذب ملايين السياح الأجانب كل سنة. أمّا شعبه الشاب فيتمتّع بمؤهّلات جيّدة تزايدت بقوّة منذ الاستقلال. فلقد تحقّق التحوّل الديموغرافي - التحوّل من معدّلات ولادة ووفيّات عالية إلى معدّلات أدنى بكثير -؛ إلاّ أن هناك ملايين الشبان الذين ما يزالون يدخلون سوق العمل، في حين يبقى خمسين في المئة منهم عاطلاً عن العمل. بحيث تتطلّب معالجة هذا التدفّق تحقيق إيقاع نمو، على مدى عشرين عاماً، أعلى من معدّل نمو الصين. ونظراً لهذا، فإنّ خسارة النقطتين من نسبّة النمو التي يكلّفها إغلاق الحدود، تشكّل تحدّياً حقيقيّاً.
وفي كلّ سنة يغرق آلاف الأشخاص في البحر المتوسّط في سعيهم إلى العمل في أوروبا؛ ويهاجر المتخرّجون - أحياناً بما يعادل نصف فوجٍ من كليّة الهندسة - وذلك لأنه لا تتوفّر لهم فرص العمل في بلدهم، حيث غالباً ما تحتكر الأوليغارشيّة الحاكمة المراكز المهمّة لأولادها. وتتهرّب سنويّا من المنطقة ثمانية مليارات دولار من الأموال الخاصّة، لتضاف إلى المخزون الموجود والمقدّر بـ200 مليار دولار. بحيث يشهد الوضع هنا ما وصفه حاكم مصرف الجزائر السابق، السيّد عبد الرحمن حاج ناصر، بـ"تشكّل بورجوازيّة حديثة" خارج حدود المغرب.
فوسفات مغربي، غاز جزائري
لقد عرفت منطقة شمال إفريقيا، منذ تأسيس قرطاجة قبل سبعة قرون من العصر المسيحي، كيف تستفيد من موقعها الاستراتيجي وتؤثّر في الشؤون العالميّة: ففي القرن السابع عشر فرضت أساطيل سلا ومدينتي الجزائر وتونس نفسها بين الكبار، حيث كان عدد الإنجليز المقيمين في المغرب والجزائر في العام 1660 أكثر من عددهم في مستعمرات العالم الجديد الأميركي، وكان قادة الدول الأوروبيّة يتعاملون مع القادة المغاربة على قدم المساواة [5]. أمّا اليوم فقد أصبح على المغرب العربي أن يواجه، ليس تفكّكه وأوروبا وحسب، بل العالم برمّته.
ولننظر في كلفة غياب المغرب العربي في مجال الطاقة. فالجزائر هي المزوّد الثالث لأوروبا بالغاز، وراء روسيا والنروج. ويمسك المغرب بحوالى نصف الاحتياط العالمي من الفوسفات؛ لكن لكي يحوّلها إلى أسمدة يحتاج إلى الطاقة والكبريت والأمونياك، وهي مكوّنات متوفّرة بكثرة لدى الجزائر وبأسعار تنافسيّة ملائمة جدّاً.
وبين الأسواق الكبرى لسماد "المجمع الشريف للفوسفاط" (OCP) هناك الهند والبرازيل والصين. هكذا فإنّ إقامة شراكة بين "سوناطراك" الجزائرية، الشركة الحكوميّة التي تلعب دوراً مركزيّاً في الصناعات النفطية الوطنية، وبين "المجمع الشريف للفوسفاط" المغربيّة، يمكن أن تجعل من المغرب العربي قاعدة الإنتاج الأكثر تنافسيّةً لإنتاج السماد في العالم، فاتحةً المجال أمام العديد من شركات المقاولات الثانويّة والمستثمرين من القارات الخمس، من دون الكلام على عددٍ لا يُحصى من فرص العمل.
ولكن باستثناء الجعالات التي تحصل عليها المملكة المغربية من مرور الغاز بين الجزائر وشبه الجزيرة الإيبريّة (اسبانيا والبرتغال) في أراضيها، عبر خطّ أنابيب "بيدرو دوران فاريل"، ليس هناك أي تعاونٍ يربط بين البلدين. لا بل أكثر من ذلك، فإن خطّ أنابيب غازٍ جديد، "ميد غاز"، سيربط قريباً الجزائر بإسبانيا مباشرةً، مع أنّ قدرات الخطّ الأوّل لم تستغلّ كلّياً.
ولنرى الآن كلفة غياب المغرب في مجال صناعة السيّارات. إذ لا يخطر على بال أيٍّ من القادة الجزائريين إقامة صندوق سياديّ [6]، والاستفادة من الأزمة للاستثمار استراتيجياً في شركة سيارات "رينو"، أو في أيّ شركة دوليّة أخرى بغية دعم عمليّة نقل التقانات المطلوبة بقوّة. ومن يفكّر أيضاً في الحصول على جزءٍ من رأسمال رينو، والتفاوض مع المغرب لتحويل مشروع طنجة - الذي يقضي بتشييد مصنعٍ ينتج أربعة مئة آلاف سيّارة سنوياً من الآن وحتى العام 2012 - إلى شركة مشتركة مع فرنسا والجزائر؟
وهناك سببان وراء رفض الجزائر العاصمة القاطع للقيام بهذا النوع من الاستثمارات الاستراتيجية: فهناك أوّلاً الرغبة في الاحتفاظ بالسيطرة المطلقة على موارد البلاد، وهو ما يستبعد أيّة عمليّة تفرض قوننتها اعتماد شيءٍ من الشفافية وتطبيق بعض القواعد المالية المعترف بها دوليّاً؛ وثانياً يغيب عن أوساط الفريق الحاكم هناك أشخاصٌ قادرون على تصوّر سيناريوهات من هذا النوع. كما أن القادة المغاربة لا يتحرّكون كثيراً من أجل تعاونٍ كهذا.
وتنسحب كلفة غياب المغرب العربي أيضاً على قطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة. فلفترة طويلة، وضعت الممارسات المقيّدة "للسياسة الزراعية المشتركة" عوائق في طريق تصدير الحمضيّات والطماطم المغاربيّة نحو أوروبا. أمّا اليوم فيمكن أن يتضافر تحرير الصادرات، والثورة في أعراف الاستهلاك الغذائي لدى مواطني المغرب العربي، مع تغييرات استراتيجيّات الشركات المتعدّدة الجنسيات في قطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة، ومع توقف المساعدات الغربية لتصدير الحبوب، ومع بروز جيلٍ من روّاد الأعمال الطموحين في البلدان الثلاثة، من أجل إحداث تغييرات جذريّة في الأوضاع.
إنّ المبادلات داخل قطاع صناعي معيّن - وقطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة لا يشذّ عن هذه القاعدة - تساهم بشكلٍ أساسيّ في النموّ الاقتصادي: هكذا يمكن للمنطقة المغاربيّة أن توفّر مختبراً جيّداً لذلك، خاصّةً وأنّ قطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة هذا يستوعب يداً عاملة كثيفة. ويكفي إلقاء نظرة على التطوّر الباهر لصادرات زيت الزيتون التونسي وإلى الشراكة بين الشركات التونسية والإسبانيّة في هذا القطاع، وإلى تجديد زراعة الكروم التي أهملت لفترة طويلة، حتّى في الجزائر، لكي ندرك ما يمكن أن تأتي به العلاقات الحديثة بين الشركات الخاصّة في المنطقة وبين أوروبا في مجال نقل التقانات وأسواق التصدير والثروات.
فكيف يمكن استغلال عناصر القوّة التي تمسك بها هذه المنطقة من دون فتح حدودها الداخليّة؟ وكيف يمكن حماية ثرواتها السمكية والحيوانية؟ وكيف يمكن الاستفادة إلى أقصى حدٍّ من مواردها المائيّة؟ وكيف يمكن جعلها أقلّ ارتهاناً لاستيراد الحبوب؟ حيث تولّد انعكاسات نظام العولمة مخاوف متنامية: من الأجسام المطوّرة جينياً، إلى التغيّر المناخي، إلى أكلاف الطاقة والسيطرة على انتشار الأوبئة. ففي عالمٍ ترتفع فيه أسعار السلع الغذائيّة، يبدو المغرب العربي، المستورد الصافي للحبوب، مهدّداً. ولذلك فإنّ الاستفادة من الإمكانيات التي يوفّرها نظام العولمة مع الاحتراز من تأثيراته السلبيّة هو التحدّي الذي يجب أن يتمّ النهوض به لكي يساعد الطبقات الريفيّة الفقيرة: إذ إنّ كلّ تطوّرٍ في القطاع الزراعي من شأنه أن يضيّق الهوّة بين المناطق الريفيّة والحضريّة.
تصدّر المغرب وتونس منتجات غذائيّة إلى أوروبا، وكذلك إلى أبعد من اوروبا. وحتّى في الجزائر، تتطوّر الاستثمارات الخاصّة في هذا القطاع بسرعة. ولكن كلّ هذا يتناقض مع حجم المبادلات الضئيل جدّاً داخل المنطقة؛ إلا إذا اعتبرنا القنّب منتجاً زراعياً غذائيّاً! في حين يجد المستثمرون المغاربيّون أنفسهم في حالة تجاذب ما بين التعطّش الدائم إلى إقامة أعمال شراكة، إن على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد الدولي، وبين التحدّيات التي عليهم مواجهتها للنجاح في ذلك.
هكذا، في هذا القطاع كما في غيره، إذا لم تنجح الدول في إذابة الجليد في علاقاتها، فإنّ المغرب وتونس سوف تستمرّان في تطوير شراكاتهما وصادراتهما على المستوى الدولي، في حين ستبقى بعض التحدّيات المشتركة من دون إجابات. ويبدو هذا الوضع عبثياً بقدر ما تلقى تقاليد المطبخ المشترك بين المغرب العربي وسائر الدول المتوسّطيّة تقديراً متزايداً في العالم. فهذه الثقافة المشتركة التي تضرب جذورها في التاريخ لا يمكنها أن تعبّر عن ذاتها كقيمةٍ مضافة - أي في الاستثمارات والإنتاج والتشغيل - إلاّ مع نهوض شركات على مستوى المغرب العربي وبالتعاون مع الشركات المتعدّدة الجنسيّات التي باتت ناشطة بقوّة في المنطقة.
الخلاصة، أنّ ما يصدم المراقب هو قلّة الاهتمام التي توليها النخب المغاربيّة لجاليّتها العديدة والكفوءة في أوروبا وأميركا والشرق الأوسط؛ وهو موقف يتناقض بشكلٍ فريد مع موقف بلادٍ مثل الصين والهند. وتتجاهل السلطات هذه النافذة الرائعة على العالم؛ هؤلاء الشباب الذين يشكّلون أيضاً جسراً مع العالم الخارجيّ. فأبناء المغرب المقيمون في الخارج يرسلون سنوياً إلى موطنهم الأصلي مبالغ بالعملات الصعبة أكبر بمرّتين من قيمة الاستثمارات الخارجيّة المباشرة؛ وهم يملكون ستّة مليارات يورو مودعة في حسابات مصرفيّة في المغرب، ما يعادل 38 في المائة من المبلغ الإجمالي. فمتى ستطلب كلٌّ من المغرب والجزائر وتونس من أبناء جالياتها في الخارج أن يكونوا سفراء الحداثة لموطنهم الأصلي؟ ومتى سنجد في المغرب ما هو بمثابة "روّاد أعمال سهل الهندوس" The Indus Valley Entrepreneurs [7]، تلك الشبكة الهنديّة التي تأسّست في العام 1992 في "سهل السيليكون" Silicon Valley، والتي تضمّ أكثر من اثني عشر ألف عضوٍ يقطنون اثني عشر بلداً؟
أما أوروبا فهي تبقى من جهتها متخوّفة: إذ إنّها لم تنجح حتّى الآن في عرض مشاريع شراكة طموحة على جيرانها في الجنوب؛ كما أنّ نخبها ووسائل إعلامها تغذّي في أغلب الأحيان الخوف من ذلك "الآخر"، المتماهي مع الاسلام الراديكالي. وقد أرست سياسة تأشيرات دخول جديرة بعالم فرانتز كافكا لجهة تعقيداتها، تعوّق حتّى حركة النخب؛ وهي ترفض أن ترى أن بإمكان بلدان المغرب العربي أن تكون، بدل مشكلة، جزءاً من الردّ على هواجسها الخاصّة إزاء تشايخ شعوبها وتنامي نفوذ الصين.
* باحث في مركز الدراسات الدولية (CIDOB)، برشلونة.
[1] عقد في مدريد في أيار/مايو 2006 ، ثمّ في برشلونة في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، راجع www.toledopax.org
[2] إقرأ: Maghreb Regional and Global Integration : A dream to be fulfilled, Peterson Institute for Global Economics, Washington DC, octobre 2008, www.petersoninstitute.org
[3] تأسّس مسار برشلونة في العام 1995، بمبادرة من الاتّحاد الأوروبي وعشر دولٍ واقعة على المتوسّط (من ضمنها السلطة الفلسطينيّة). وكان المطلوب هو تطبيق شراكة اقتصادية وسياسيّة وثقافيّة بين طرفي المتوسّط. لكن انهيار مفاوضات السلام الإسرائيليّة-الفلسطينية قد أوقف بوادر التعاون الإقليمي. وفي 13/7/2008 تمّ بمبادرة من الرئيس نيكولا ساركوزي إطلاق "مسار برشلونة-الاتّحاد من أجل المتوسّط"، لكنّه اصطدم بالمشاكل السياسيّة نفسها. إقرأ: جورج قرم: "معرض من الخدع حول البحر الأبيض المتوسط"، وسمير العيطة: "الاتحاد من أجل المتوسط... كفى نفاقاً"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، تموز/يوليو 2008؛ http://www.mondiploar.com/article.p...
[4] الحقيقة أنّ البعد الأمني للاتّحاد من أجل المتوسّط قد أثار حفيظة بعض زعماء المغرب العربي.
[5] Nabil Matar, Turks, Moors and Englishmen in the Age of Discovery, Columbia University Press, New York, 2001; Europe through Arab Eyes 1578-1727, Columbia University Press, New York, 2009.
[6] راجع:Francis Ghilès, Omar Aloui et Guillaume Alméras, A l’Horizon 2013. Un scénario incertain pour le Maghreb, Fondation du Centre d’études internationales a Barcelone (CIDOB), juillet 2009. www.cidob.org، ملاحظة النشرة العربيّة: في الحقيقة، اقترحت مجموعة من الاقتصاديين الجزائريين إنشاء مثل هذا الصندوق السيادي؛ راجع: http://www.lequotidien-oran.com/?ar...
[7] راجع: www.tie.org
لا يزال النزاع حول الصحراء الغربية يمثّل عقبةً رئيسية أمام التعاون الضروري بين المغرب والجزائر، ويبطىء التبادل الإقليمي الذي يمكن أن ينمو بينهما مع تونس. مع هذا، في حين يحظى التكامل الكامن بين الدول الثلاث بتشجيع الاتحاد الاوروبي، فإن التعاون السياسي والاقتصادي يمكن أن يساعد على حلّ العديد من المشكلات على الشاطىء الجنوبي للبحر المتوسط
على بعد بضعة كيلومترات من وجدة، عاصمة المقاطعة الشرقيّة في المغرب، يجد الزائر نفسه إزاء وضعٍ غريب: إذ أن الطريق إلى الجزائر مقطوعة بآليّات الأشغال العامة، فيما يتسكّع بعض رجال الأمن ويسود هدوءٌ غريب في مكانٍ يفترض أن يكون نقطة عبورٍ مكتظّة بين الدولتين الكبريين سكّاناً في شمال إفريقيا. ويعكس هذا الصمت الثقيل الخلاف القائم بين الرباط والجزائر العاصمة، منذ عمر جيلٍ. في المقابل، وفي مكانٍ أبعد صوب الجنوب، في فيكيك، يجتاز الجنود الجزائريون الحدود بأمانٍ لكي يشربوا القهوة في أراضي المملكة، بينما المغاربة يزورون أقاربهم في الجمهورية من دون أن يجد أحدٌ ما يضير في هذه المبادلات العائلية.
ويمكن ترجمة "غياب التكتل المغاربي" على تنويعات مختلفة: من الطاقة إلى المصارف أو النقل أو الزراعات الغذائيّة أو التربية أو الثقافة أو السياحة. فالتبادل التجاري بين دول شمال إفريقيا لا يتخطّى 1.3% من مجمل مبادلاتهم الخارجيّة؛ وهذه أدنى نسبة مناطقيّة في العالم. وقد أبرز مؤتمران عقدا تحت عنوان "من كلفة غياب التكتل المغاربي إلى نمر شمال إفريقيا [1]" وتقريرٌ صدر عن "مؤسسة بيترسون [2]" للأبحاث، بشكلٍ وافٍ المنافع التي يمكن أن تستفيد منها شعوب المغرب العربي لو أنّ حدودها كانت مفتوحة بعضها على بعض. وعندما يدعى أصحاب الشركات المغاربية إلى اجتماع، فإنّ معظمهم لا يبدي سوى رغبة واحدة، وهي التمكُّن من الانتشار في مساحة تتخطّى الانقسامات الوطنيّة.
ويدفع الفقراء كما الأغنياء ثمن عجز النخب الحاكمة عن وضع مشروعٍ مشترك. ففيما يشهد العالم تحوّلات لا سابق لها منذ العام 1945، يبقى المغرب العربي غائباً أكبر عن الساحة. حيث لم تقدّم دول المنطقة أيّة عروض للاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بموقعها في مسار برشلونة [3]. فهل هي ستتحرّك أكثر إزاء "مسار برشلونة - الاتّحاد من أجل المتوسّط"؟ لا شيء يسمح بالتفاؤل بهذا [4].
يملك المغرب العربي العديد من الموارد: وفرة من النفط والغاز وأنواع الفوسفات، وإنتاجٌ زراعيّ متنوّع بنوعيّة جيّدة غالباً - لكنّه يواجه عجزاً متنامياً في إنتاج الحبوب - إضافةً إلى مشاهدٍ طبيعيّة رائعة تجتذب ملايين السياح الأجانب كل سنة. أمّا شعبه الشاب فيتمتّع بمؤهّلات جيّدة تزايدت بقوّة منذ الاستقلال. فلقد تحقّق التحوّل الديموغرافي - التحوّل من معدّلات ولادة ووفيّات عالية إلى معدّلات أدنى بكثير -؛ إلاّ أن هناك ملايين الشبان الذين ما يزالون يدخلون سوق العمل، في حين يبقى خمسين في المئة منهم عاطلاً عن العمل. بحيث تتطلّب معالجة هذا التدفّق تحقيق إيقاع نمو، على مدى عشرين عاماً، أعلى من معدّل نمو الصين. ونظراً لهذا، فإنّ خسارة النقطتين من نسبّة النمو التي يكلّفها إغلاق الحدود، تشكّل تحدّياً حقيقيّاً.
وفي كلّ سنة يغرق آلاف الأشخاص في البحر المتوسّط في سعيهم إلى العمل في أوروبا؛ ويهاجر المتخرّجون - أحياناً بما يعادل نصف فوجٍ من كليّة الهندسة - وذلك لأنه لا تتوفّر لهم فرص العمل في بلدهم، حيث غالباً ما تحتكر الأوليغارشيّة الحاكمة المراكز المهمّة لأولادها. وتتهرّب سنويّا من المنطقة ثمانية مليارات دولار من الأموال الخاصّة، لتضاف إلى المخزون الموجود والمقدّر بـ200 مليار دولار. بحيث يشهد الوضع هنا ما وصفه حاكم مصرف الجزائر السابق، السيّد عبد الرحمن حاج ناصر، بـ"تشكّل بورجوازيّة حديثة" خارج حدود المغرب.
فوسفات مغربي، غاز جزائري
لقد عرفت منطقة شمال إفريقيا، منذ تأسيس قرطاجة قبل سبعة قرون من العصر المسيحي، كيف تستفيد من موقعها الاستراتيجي وتؤثّر في الشؤون العالميّة: ففي القرن السابع عشر فرضت أساطيل سلا ومدينتي الجزائر وتونس نفسها بين الكبار، حيث كان عدد الإنجليز المقيمين في المغرب والجزائر في العام 1660 أكثر من عددهم في مستعمرات العالم الجديد الأميركي، وكان قادة الدول الأوروبيّة يتعاملون مع القادة المغاربة على قدم المساواة [5]. أمّا اليوم فقد أصبح على المغرب العربي أن يواجه، ليس تفكّكه وأوروبا وحسب، بل العالم برمّته.
ولننظر في كلفة غياب المغرب العربي في مجال الطاقة. فالجزائر هي المزوّد الثالث لأوروبا بالغاز، وراء روسيا والنروج. ويمسك المغرب بحوالى نصف الاحتياط العالمي من الفوسفات؛ لكن لكي يحوّلها إلى أسمدة يحتاج إلى الطاقة والكبريت والأمونياك، وهي مكوّنات متوفّرة بكثرة لدى الجزائر وبأسعار تنافسيّة ملائمة جدّاً.
وبين الأسواق الكبرى لسماد "المجمع الشريف للفوسفاط" (OCP) هناك الهند والبرازيل والصين. هكذا فإنّ إقامة شراكة بين "سوناطراك" الجزائرية، الشركة الحكوميّة التي تلعب دوراً مركزيّاً في الصناعات النفطية الوطنية، وبين "المجمع الشريف للفوسفاط" المغربيّة، يمكن أن تجعل من المغرب العربي قاعدة الإنتاج الأكثر تنافسيّةً لإنتاج السماد في العالم، فاتحةً المجال أمام العديد من شركات المقاولات الثانويّة والمستثمرين من القارات الخمس، من دون الكلام على عددٍ لا يُحصى من فرص العمل.
ولكن باستثناء الجعالات التي تحصل عليها المملكة المغربية من مرور الغاز بين الجزائر وشبه الجزيرة الإيبريّة (اسبانيا والبرتغال) في أراضيها، عبر خطّ أنابيب "بيدرو دوران فاريل"، ليس هناك أي تعاونٍ يربط بين البلدين. لا بل أكثر من ذلك، فإن خطّ أنابيب غازٍ جديد، "ميد غاز"، سيربط قريباً الجزائر بإسبانيا مباشرةً، مع أنّ قدرات الخطّ الأوّل لم تستغلّ كلّياً.
ولنرى الآن كلفة غياب المغرب في مجال صناعة السيّارات. إذ لا يخطر على بال أيٍّ من القادة الجزائريين إقامة صندوق سياديّ [6]، والاستفادة من الأزمة للاستثمار استراتيجياً في شركة سيارات "رينو"، أو في أيّ شركة دوليّة أخرى بغية دعم عمليّة نقل التقانات المطلوبة بقوّة. ومن يفكّر أيضاً في الحصول على جزءٍ من رأسمال رينو، والتفاوض مع المغرب لتحويل مشروع طنجة - الذي يقضي بتشييد مصنعٍ ينتج أربعة مئة آلاف سيّارة سنوياً من الآن وحتى العام 2012 - إلى شركة مشتركة مع فرنسا والجزائر؟
وهناك سببان وراء رفض الجزائر العاصمة القاطع للقيام بهذا النوع من الاستثمارات الاستراتيجية: فهناك أوّلاً الرغبة في الاحتفاظ بالسيطرة المطلقة على موارد البلاد، وهو ما يستبعد أيّة عمليّة تفرض قوننتها اعتماد شيءٍ من الشفافية وتطبيق بعض القواعد المالية المعترف بها دوليّاً؛ وثانياً يغيب عن أوساط الفريق الحاكم هناك أشخاصٌ قادرون على تصوّر سيناريوهات من هذا النوع. كما أن القادة المغاربة لا يتحرّكون كثيراً من أجل تعاونٍ كهذا.
وتنسحب كلفة غياب المغرب العربي أيضاً على قطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة. فلفترة طويلة، وضعت الممارسات المقيّدة "للسياسة الزراعية المشتركة" عوائق في طريق تصدير الحمضيّات والطماطم المغاربيّة نحو أوروبا. أمّا اليوم فيمكن أن يتضافر تحرير الصادرات، والثورة في أعراف الاستهلاك الغذائي لدى مواطني المغرب العربي، مع تغييرات استراتيجيّات الشركات المتعدّدة الجنسيات في قطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة، ومع توقف المساعدات الغربية لتصدير الحبوب، ومع بروز جيلٍ من روّاد الأعمال الطموحين في البلدان الثلاثة، من أجل إحداث تغييرات جذريّة في الأوضاع.
إنّ المبادلات داخل قطاع صناعي معيّن - وقطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة لا يشذّ عن هذه القاعدة - تساهم بشكلٍ أساسيّ في النموّ الاقتصادي: هكذا يمكن للمنطقة المغاربيّة أن توفّر مختبراً جيّداً لذلك، خاصّةً وأنّ قطاع الصناعات الزراعيّة الغذائيّة هذا يستوعب يداً عاملة كثيفة. ويكفي إلقاء نظرة على التطوّر الباهر لصادرات زيت الزيتون التونسي وإلى الشراكة بين الشركات التونسية والإسبانيّة في هذا القطاع، وإلى تجديد زراعة الكروم التي أهملت لفترة طويلة، حتّى في الجزائر، لكي ندرك ما يمكن أن تأتي به العلاقات الحديثة بين الشركات الخاصّة في المنطقة وبين أوروبا في مجال نقل التقانات وأسواق التصدير والثروات.
فكيف يمكن استغلال عناصر القوّة التي تمسك بها هذه المنطقة من دون فتح حدودها الداخليّة؟ وكيف يمكن حماية ثرواتها السمكية والحيوانية؟ وكيف يمكن الاستفادة إلى أقصى حدٍّ من مواردها المائيّة؟ وكيف يمكن جعلها أقلّ ارتهاناً لاستيراد الحبوب؟ حيث تولّد انعكاسات نظام العولمة مخاوف متنامية: من الأجسام المطوّرة جينياً، إلى التغيّر المناخي، إلى أكلاف الطاقة والسيطرة على انتشار الأوبئة. ففي عالمٍ ترتفع فيه أسعار السلع الغذائيّة، يبدو المغرب العربي، المستورد الصافي للحبوب، مهدّداً. ولذلك فإنّ الاستفادة من الإمكانيات التي يوفّرها نظام العولمة مع الاحتراز من تأثيراته السلبيّة هو التحدّي الذي يجب أن يتمّ النهوض به لكي يساعد الطبقات الريفيّة الفقيرة: إذ إنّ كلّ تطوّرٍ في القطاع الزراعي من شأنه أن يضيّق الهوّة بين المناطق الريفيّة والحضريّة.
تصدّر المغرب وتونس منتجات غذائيّة إلى أوروبا، وكذلك إلى أبعد من اوروبا. وحتّى في الجزائر، تتطوّر الاستثمارات الخاصّة في هذا القطاع بسرعة. ولكن كلّ هذا يتناقض مع حجم المبادلات الضئيل جدّاً داخل المنطقة؛ إلا إذا اعتبرنا القنّب منتجاً زراعياً غذائيّاً! في حين يجد المستثمرون المغاربيّون أنفسهم في حالة تجاذب ما بين التعطّش الدائم إلى إقامة أعمال شراكة، إن على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد الدولي، وبين التحدّيات التي عليهم مواجهتها للنجاح في ذلك.
هكذا، في هذا القطاع كما في غيره، إذا لم تنجح الدول في إذابة الجليد في علاقاتها، فإنّ المغرب وتونس سوف تستمرّان في تطوير شراكاتهما وصادراتهما على المستوى الدولي، في حين ستبقى بعض التحدّيات المشتركة من دون إجابات. ويبدو هذا الوضع عبثياً بقدر ما تلقى تقاليد المطبخ المشترك بين المغرب العربي وسائر الدول المتوسّطيّة تقديراً متزايداً في العالم. فهذه الثقافة المشتركة التي تضرب جذورها في التاريخ لا يمكنها أن تعبّر عن ذاتها كقيمةٍ مضافة - أي في الاستثمارات والإنتاج والتشغيل - إلاّ مع نهوض شركات على مستوى المغرب العربي وبالتعاون مع الشركات المتعدّدة الجنسيّات التي باتت ناشطة بقوّة في المنطقة.
الخلاصة، أنّ ما يصدم المراقب هو قلّة الاهتمام التي توليها النخب المغاربيّة لجاليّتها العديدة والكفوءة في أوروبا وأميركا والشرق الأوسط؛ وهو موقف يتناقض بشكلٍ فريد مع موقف بلادٍ مثل الصين والهند. وتتجاهل السلطات هذه النافذة الرائعة على العالم؛ هؤلاء الشباب الذين يشكّلون أيضاً جسراً مع العالم الخارجيّ. فأبناء المغرب المقيمون في الخارج يرسلون سنوياً إلى موطنهم الأصلي مبالغ بالعملات الصعبة أكبر بمرّتين من قيمة الاستثمارات الخارجيّة المباشرة؛ وهم يملكون ستّة مليارات يورو مودعة في حسابات مصرفيّة في المغرب، ما يعادل 38 في المائة من المبلغ الإجمالي. فمتى ستطلب كلٌّ من المغرب والجزائر وتونس من أبناء جالياتها في الخارج أن يكونوا سفراء الحداثة لموطنهم الأصلي؟ ومتى سنجد في المغرب ما هو بمثابة "روّاد أعمال سهل الهندوس" The Indus Valley Entrepreneurs [7]، تلك الشبكة الهنديّة التي تأسّست في العام 1992 في "سهل السيليكون" Silicon Valley، والتي تضمّ أكثر من اثني عشر ألف عضوٍ يقطنون اثني عشر بلداً؟
أما أوروبا فهي تبقى من جهتها متخوّفة: إذ إنّها لم تنجح حتّى الآن في عرض مشاريع شراكة طموحة على جيرانها في الجنوب؛ كما أنّ نخبها ووسائل إعلامها تغذّي في أغلب الأحيان الخوف من ذلك "الآخر"، المتماهي مع الاسلام الراديكالي. وقد أرست سياسة تأشيرات دخول جديرة بعالم فرانتز كافكا لجهة تعقيداتها، تعوّق حتّى حركة النخب؛ وهي ترفض أن ترى أن بإمكان بلدان المغرب العربي أن تكون، بدل مشكلة، جزءاً من الردّ على هواجسها الخاصّة إزاء تشايخ شعوبها وتنامي نفوذ الصين.
* باحث في مركز الدراسات الدولية (CIDOB)، برشلونة.
[1] عقد في مدريد في أيار/مايو 2006 ، ثمّ في برشلونة في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، راجع www.toledopax.org
[2] إقرأ: Maghreb Regional and Global Integration : A dream to be fulfilled, Peterson Institute for Global Economics, Washington DC, octobre 2008, www.petersoninstitute.org
[3] تأسّس مسار برشلونة في العام 1995، بمبادرة من الاتّحاد الأوروبي وعشر دولٍ واقعة على المتوسّط (من ضمنها السلطة الفلسطينيّة). وكان المطلوب هو تطبيق شراكة اقتصادية وسياسيّة وثقافيّة بين طرفي المتوسّط. لكن انهيار مفاوضات السلام الإسرائيليّة-الفلسطينية قد أوقف بوادر التعاون الإقليمي. وفي 13/7/2008 تمّ بمبادرة من الرئيس نيكولا ساركوزي إطلاق "مسار برشلونة-الاتّحاد من أجل المتوسّط"، لكنّه اصطدم بالمشاكل السياسيّة نفسها. إقرأ: جورج قرم: "معرض من الخدع حول البحر الأبيض المتوسط"، وسمير العيطة: "الاتحاد من أجل المتوسط... كفى نفاقاً"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، تموز/يوليو 2008؛ http://www.mondiploar.com/article.p...
[4] الحقيقة أنّ البعد الأمني للاتّحاد من أجل المتوسّط قد أثار حفيظة بعض زعماء المغرب العربي.
[5] Nabil Matar, Turks, Moors and Englishmen in the Age of Discovery, Columbia University Press, New York, 2001; Europe through Arab Eyes 1578-1727, Columbia University Press, New York, 2009.
[6] راجع:Francis Ghilès, Omar Aloui et Guillaume Alméras, A l’Horizon 2013. Un scénario incertain pour le Maghreb, Fondation du Centre d’études internationales a Barcelone (CIDOB), juillet 2009. www.cidob.org، ملاحظة النشرة العربيّة: في الحقيقة، اقترحت مجموعة من الاقتصاديين الجزائريين إنشاء مثل هذا الصندوق السيادي؛ راجع: http://www.lequotidien-oran.com/?ar...
[7] راجع: www.tie.org