1 احتمالات الغزو العسكري في ليبيا وسيناريوهاته الجمعة مارس 25, 2011 6:29 am
admin
Admin
أ. أمير سعيد
النيران تلتهم ليبيا، رائحة الموت تنتشر في أجوائها، الدمار يلف مدنها الساحلية الجميلة، بالطبع ليس هذا ما كان يرنو إليه الثوار، غير أن جنون دراكولا ليبيا، وحسابات ترتيب التركة الليبية لدى "مستعمري" أوربا والولايات المتحدة، والشلل العربي والإسلامي، دفعت جميعها نحو هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه ليبيا.
المراوحة بين الكر والفر عند الثوار، والذي بلغ حدًّا مخيفًا من التراجع الآن أمام قوات السفاح الليبي المؤلفة والمدعومة بغطاء جوي وآخر بحري في بلاد تنتظم جُلّ مدنها على السواحل الشاسعة للدولة التي تمتلك أكبر إطلالة على البحر المتوسط، تدفع الأمور باتجاه التدخل الغربي وتحفز القوى المتربصة بهذا البلد الغني على استغلال الوضع المتردي للسكان، والقدرة المحدودة للثوار على حسم المعركة لصالحهم؛ لفرض حزمة من الشروط على المجلس الانتقالي الليبي تعيده إلى دائرة الاحتلال التي لم تكن بعيدة في مضمونها عن الحال إبان حكم العقيد نفسه.. الغرب ليس حذرًا، لكنه يعاود تكرار مشهد أوربا من الرجل المريض، حين ترك الثمرة تنضج، وهي هنا تعني مدى تلبية المجلس الانتقالي للشروط التي يتوجب عليه الالتزام بها في حال تدخل الحلف الأطلسي (أو تحالف ما تقوده الولايات المتحدة الأمريكية) لتحريك دفة المعركة لصالح الثوار بشكل أو بآخر.
التريث أو التردد الأوربي الأمريكي، وتباين المواقف النسبية بين الدول الأوربية له مبرراته؛ لاختلاف مصالح الدول الأوربية والغرب في ليبيا، وهو الأمر ذاته الذي يلقي بظلاله على الموقف العربي المتراوح بين تأييد إطاحة نظام لا يتمتع بعلاقات طيبة مع دول خليجية، والتخوف من شرعنة التدخل تأييدًا للثورات التي هي ليست بمنأى عن مجموع الدول العربية.
ولأوربا أسبابها الجوهرية في صباغة مواقفها من القذافي بألوان مصالحها المتنوعة؛ فإيطاليا التي تحتفظ باستثمارات ضخمة في ليبيا تقدر بنحو 30 مليار دولار معظمها يعود إلى شركة إيني الإيطالية النفطية التي تساهم في تزويد إيطاليا بربع احتياجاتها النفطية و10% من الغاز المصدر عبر أنبوب غاز يمر بجزيرة صقلية، إضافة إلى عقود تشييد الطريق الساحلي الليبي الممتد، لا يمكنها بسهولة أن تغامر بالتدخل العسكري إلا حالما تضمن ميزة تفضيلية كبرى كأكبر شريك تجاري وبلد الاحتلال الأساسي السابق لليبيا، والذي ساهم في القفز بالقذافي إلى سدة الحكم في ليبيا لتنفيذ سياسة مشابهة لتلك التي كان يتبعها جرسياني القائد الإيطالي الذي أعدم المجاهد عمر المختار.. تلك الميزة قد لا توفرها واشنطن لروما في حال رسمت ريشة التغيير العسكرية خطوطها الجديدة، أو أفضى التدخل أو عدمه إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين أو أكثر.
وألمانيا التي عارضت التدخل العسكري حتى الآن، وتذرع وزير خارجيتها جيدو فيستر فيله بـ"أهمية تجنب إعطاء انطباع بأن الأمر يدور حول حملة صليبية ضد مسلمين"، والتي يفوق حجم وارداتها من النفط الليبي نظيره من السعودي، كما يفوقه كفاءة للاستخدام الألماني، تدرك أن "أمنها النفطي مضمون"، وفقًا لوزير الاقتصاد الألماني راينر برودرله، ولا تخشى في هذه المعمعة كلها إلا ارتفاع أسعار النفط، وزيادة النفوذ الأمريكي في الشمال الإفريقي على حساب أوربا، وبالتالي لا تجد نفسها مدعوة لتأييد تدخل عسكري في ليبيا تعلم جيدًا أنها لن تكون عرَّابته؛ نظرًا للحسابات العسكرية الدولية، ولن تحصد شيئًا من حصوله، بخلاف الفرنسيين الأكثر حماسة لاقتطاع جزء من الكعكة الليبية قبل أن يلتهمها الأمريكيون والبريطانيون بشكل كامل. ثم إن فرنسا التي تعاني من أزمات في إمداد النفط بعد فقدانها كثيرًا من مناطق النفوذ في وسط إفريقيا، تتطلع إلى الاقتراب مجددًا من تشاد ودارفور (حيث اليورانيوم والنفط الواعد).
وروسيا التي تقاوم التدخل الأمريكي والأوربي الغربي في ليبيا لا يخطئها أن الصديق الليبي سيفضل عليها "صناع ثورته القادمة"، وسيدير ظهره لموسكو وشركاتها العاملة في ليبيا، وهذا ما دفعه إلى تحريك إحدى حليفاته العربيات لتزويد القذافي بالأسلحة، فضلاً عن احتمالية التدخل العسكري المباشر أو الدعم التسليحي لطرابلس، والذي ترددت أنباء عن حصوله بالفعل بواسطة بوارج حربية روسية تقترب هي الأخرى من الشواطئ الليبية.
أما عربيًّا، وعلى ذكر تلك الدولة، وهي سوريا التي أرسل نظامها بعض طياريها للقتال إلى جانب السفاح الليبي، والتي لا تخفي -كما الأخريات- انزعاجها من "ربيع الثورات العربية"، وتنزع إلى انتحاء المسلك الليبي في قمع شعبها الثائر، إن سعى إلى الثورة بدوره هذا الشهر.
سوريا إذن كاليمن والجزائر والسودان تدفع جميعها باتجاه كبح جماح الثورات، وقطع الطريق أمام "سابقة" التدخل العسكري، وهو الموقف الذي لا تشاطرها إياه الدول التي نجحت فيها الثورة جزئيًّا مثل مصر وتونس، لكنهما مع ذلك، وإن أبديا "تفهمًا" لمسألة الحظر الجوي على ليبيا إلا أنهما حذرتان جدًّا من ردة فعل الطاغية الليبي غير المحسوبة، وخصوصًا الأولى التي لا تريد أن تقامر بحياة مئات الآلاف من المصريين العاملين في ليبيا، هذا على اعتبار أن السياسة المصرية الخارجية بعد الثورة ستختلف جذريًّا عما كان قبلها لجهة عدم الارتهان للإرادة الأمريكية، وهو ما سيظل محل نظر كبير للمتابعين لتطورات الأوضاع في مصر ما بعد الثورة. (وتونس بالمثل أيضًا)، وبخلافهما يبدو الخليج معنيًّا بإرضاء الموقف الدولي الذي يدرك الساسة أنه بالغ التأثير في مستقبل الخليج الحذر من رياح الثورات المجاورة، وكذلك بتصفية حسابات قديمة مع العقيد، والحصول على ضمانات -ربما- بمقايضة الموقف من التدخل العسكري في ليبيا كما العراق من قبل.
وبالجملة، فإن المواقف العربية المختلفة التي تجمعها عادة الرغبة الأمريكية في صياغة قرار ما متوقعة، ولا تخرج كثيرًا عن المألوف، وهي في مجموعها لا تتعلق بالجانب الاقتصادي، بخلاف الأوربية التي ارتكز الفرز فيها على أسس براجماتية اقتصادية في معظمها، والتي أدت إلى هذا التنوع والاختلاف العميق بين الدول الأوربية والولايات المتحدة بعضها مع بعض، والذي خلّف هذا التردد في اتخاذ القرار لدى البعض، والتمهل ريثما يلتصق الموقف الثوري الليبي بالغربي، ويمنح الغازي أقصى درجات الخضوع (أو هكذا تبغي تلك الدول)، لا سيما أن رصدًا بأهم الثروات القذافية المجمدة بالمليار دولار (30 بالولايات المتحدة، و32 ببريطانيا، و10 بألمانيا) يبرهن على أن العقيد "الثائر" لم يكن إلا وكيلاً عن الدول الغربية في ليبيا، ومن غير اليسير توفير "زعيم مناضل" آخر ليحل محله في مهمته "الثورية"!
على أن هذا اختلاف المصالح الاقتصادية ليس الدافع الأوحد لاتخاذ هذا الموقف المتأرجح أو المتباطئ من مساندة الثوار؛ فالخلفية الدينية التي بدأت ترتسم في المشهد الثوري أو التي باتت عمودًا أصيلاً من أعمدة الثورة، والخشية من إنضاج ثورات مستقلة ولو لم تكن إسلامية بالضرورة، يمكنها أن تراجع وتدقق في العقود النفطية الخرقاء التي كان يوقعها العقيد من خيمته، والتي جعلت معظم استثمارات ليبيا في حوزة الغرب، سواء من ما يتعلق بعائدات النفط أم شركات التنقيب والتكرير وغيرها، بما لا يحلم به الغرب في ظل نظام يتمتع بالشفافية.
وهو ما يعبر عنه غير دبلوماسي وسياسي وخبير في الشئون الاستراتيجية، ومنهم جيمس هاكيت من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية الذي قال: "المشكلة هنا هي أنك يجب أن تسأل نفسك ستسلح من؟ لأنك من المحتمل أن تتعامل مع مجموعة مختلفة من القبائل والمجتمعات التي لديها أجندات مختلفة تمامًا قد تبرز بمجرد رحيل القذافي". و"مشكلة هاكيت"، وعدد من الصحف البريطانية كذلك -ومنها صنداي تايمز التي قالت من جهتها: "إن ليبيا تعاني من نزاعات قبلية، ولا ضمان هناك بأن الحكومة الجديدة ستكون في النهاية أفضل من نظام القذافي"- في رأيي يتعلق أكثر ليس بمسائل قبلية كما يقول، وإنما بتخوفات دينية، قد تهيئ لها دولة لا مركزية أو حُرَّة أو حتى دويلات ممزقة المناخ اللازم لمحو الصورة التي كانت عليها ليبيا خلال العقود الأربعة الماضية، التي كان يلاحق فيها المصلون ويوصف المتدينون فيها بالجرذان والكلاب الضالة!
هذه الدولة الليبية المستقلة هي ما يخشاها الغرب، لا سيما بعد أن بدأت بوادر غير مشجعة لدى الجارة المصرية التي لا يتوافر لدى العواصم الغربية الاطمئنان الكافي على مستقبلها في ظل مستقبل ضبابي يكتنفها، وهذا ما يعزز فرص التدخل العسكري الغربي الذي بدت نواجزه الآن برغم كل الاحتياطات المشار إليها هنا؛ فحيث تتحرك الأساطيل تسبقها إشارات دبلوماسية وتكهنات صحفية من دوائر قريبة من صناع القرار في الغرب، ويرفع العرب مظلتهم "الشرعية والقانونية" لتبرير التدخل العسكري الذي قد لا يقتصر -غالبًا- على فرض الحظر الجوي (تحت ذريعة عدم كفايته العسكرية لإخضاع العقيد)؛ فإن تجاهل الغرب للفرصة المواتية لتدخله في ليبيا هو أمر مستبعد بطبيعة الحال.
وإذا ما ترجح التدخل فإن شكله ومجاله وحجم المشاركة فيه وأهدافه ومدته يظل رهينًا بالوضع الميداني، ومدى رغبة بعض الأطراف في إطالة أمده واستنزاف قدرة الثوار على التحرك بشكل منفرد بعيدًا عن الغرب، وعن طلب التدخل لمساعدتهم، والثمن الذي يريده الغرب من الحكم الجديد في ليبيا؛ إذ يدرك الجميع أن نظام القذافي قد انتهى مهما تمكن من تحريك جحافله شرقًا؛ لأن استمراره في الحكم حتى لو استطاع إخماد الثورة تمامًا - هو محل نظر شديد من كافة القوى الدولية والإقليمية، وعليه فإن مستقبل ليبيا -يدرك الجميع- لن يشمل صورة القذافي وأبنائه.
نحن -إذن- إزاء تدخل محتمل بدرجة كبيرة لا يتوقف بالضرورة عند الحظر الجوي، وهكذا بدأ القادة العسكريون الغربيون يلمحون، وأمام سيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، ما بين التقسيم العملي لليبيا على أرضية الدعم المحدود للطرفين مع إبقاء الحظر الجوي قائمًا (النموذج البوسني)، وهو ما تتحسب له دول عربية أخرى لها جغرافيا وديموجرافيا مشابهة للوضع الليبي أيضًا، وما بين الغزو العسكري طويل الأمد والإطلال -ربما- على وسط إفريقيا ودارفور، أو الغزو قصير الأمد مع الاحتفاظ بقواعد عسكرية على حدود مصر الشرقية، وتلبية مطامع البنتاجون في إيجاد مقر لقوات أفريكوم في الشمال الإفريقي بعد أن رفضتها أبرز الدول الإفريقية من قبل.
وفي مناخ مهيَّأ للغاية للتدخل العسكري يصنعه عبيد الكراسي من أمثال العقيد الهائج -ونظرائه- والذي يحملهم على تعريض أمن دولهم القومي لأفدح المخاطر، والرهان بشعوبهم على طاولة قمار الغرب، واستخدام جيوشهم لتعبيد الطريق للغزاة حينما تدير فوهات أسلحتها لشعوبها الحرة، وتولي ظهرها للغزاة و"المستعمرين"؛ فقديمًا قال الصهاينة -زورًا-: وجدنا بلدًا بلا شعب فاحتللناه، واليوم سيقول الغرب: وجدنا بلدًا بلا جيش فدخلناه، وعقيدًا بلا عقل فامتطيناه.
المصدر: موقع المسلم.
النيران تلتهم ليبيا، رائحة الموت تنتشر في أجوائها، الدمار يلف مدنها الساحلية الجميلة، بالطبع ليس هذا ما كان يرنو إليه الثوار، غير أن جنون دراكولا ليبيا، وحسابات ترتيب التركة الليبية لدى "مستعمري" أوربا والولايات المتحدة، والشلل العربي والإسلامي، دفعت جميعها نحو هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه ليبيا.
المراوحة بين الكر والفر عند الثوار، والذي بلغ حدًّا مخيفًا من التراجع الآن أمام قوات السفاح الليبي المؤلفة والمدعومة بغطاء جوي وآخر بحري في بلاد تنتظم جُلّ مدنها على السواحل الشاسعة للدولة التي تمتلك أكبر إطلالة على البحر المتوسط، تدفع الأمور باتجاه التدخل الغربي وتحفز القوى المتربصة بهذا البلد الغني على استغلال الوضع المتردي للسكان، والقدرة المحدودة للثوار على حسم المعركة لصالحهم؛ لفرض حزمة من الشروط على المجلس الانتقالي الليبي تعيده إلى دائرة الاحتلال التي لم تكن بعيدة في مضمونها عن الحال إبان حكم العقيد نفسه.. الغرب ليس حذرًا، لكنه يعاود تكرار مشهد أوربا من الرجل المريض، حين ترك الثمرة تنضج، وهي هنا تعني مدى تلبية المجلس الانتقالي للشروط التي يتوجب عليه الالتزام بها في حال تدخل الحلف الأطلسي (أو تحالف ما تقوده الولايات المتحدة الأمريكية) لتحريك دفة المعركة لصالح الثوار بشكل أو بآخر.
التريث أو التردد الأوربي الأمريكي، وتباين المواقف النسبية بين الدول الأوربية له مبرراته؛ لاختلاف مصالح الدول الأوربية والغرب في ليبيا، وهو الأمر ذاته الذي يلقي بظلاله على الموقف العربي المتراوح بين تأييد إطاحة نظام لا يتمتع بعلاقات طيبة مع دول خليجية، والتخوف من شرعنة التدخل تأييدًا للثورات التي هي ليست بمنأى عن مجموع الدول العربية.
ولأوربا أسبابها الجوهرية في صباغة مواقفها من القذافي بألوان مصالحها المتنوعة؛ فإيطاليا التي تحتفظ باستثمارات ضخمة في ليبيا تقدر بنحو 30 مليار دولار معظمها يعود إلى شركة إيني الإيطالية النفطية التي تساهم في تزويد إيطاليا بربع احتياجاتها النفطية و10% من الغاز المصدر عبر أنبوب غاز يمر بجزيرة صقلية، إضافة إلى عقود تشييد الطريق الساحلي الليبي الممتد، لا يمكنها بسهولة أن تغامر بالتدخل العسكري إلا حالما تضمن ميزة تفضيلية كبرى كأكبر شريك تجاري وبلد الاحتلال الأساسي السابق لليبيا، والذي ساهم في القفز بالقذافي إلى سدة الحكم في ليبيا لتنفيذ سياسة مشابهة لتلك التي كان يتبعها جرسياني القائد الإيطالي الذي أعدم المجاهد عمر المختار.. تلك الميزة قد لا توفرها واشنطن لروما في حال رسمت ريشة التغيير العسكرية خطوطها الجديدة، أو أفضى التدخل أو عدمه إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين أو أكثر.
وألمانيا التي عارضت التدخل العسكري حتى الآن، وتذرع وزير خارجيتها جيدو فيستر فيله بـ"أهمية تجنب إعطاء انطباع بأن الأمر يدور حول حملة صليبية ضد مسلمين"، والتي يفوق حجم وارداتها من النفط الليبي نظيره من السعودي، كما يفوقه كفاءة للاستخدام الألماني، تدرك أن "أمنها النفطي مضمون"، وفقًا لوزير الاقتصاد الألماني راينر برودرله، ولا تخشى في هذه المعمعة كلها إلا ارتفاع أسعار النفط، وزيادة النفوذ الأمريكي في الشمال الإفريقي على حساب أوربا، وبالتالي لا تجد نفسها مدعوة لتأييد تدخل عسكري في ليبيا تعلم جيدًا أنها لن تكون عرَّابته؛ نظرًا للحسابات العسكرية الدولية، ولن تحصد شيئًا من حصوله، بخلاف الفرنسيين الأكثر حماسة لاقتطاع جزء من الكعكة الليبية قبل أن يلتهمها الأمريكيون والبريطانيون بشكل كامل. ثم إن فرنسا التي تعاني من أزمات في إمداد النفط بعد فقدانها كثيرًا من مناطق النفوذ في وسط إفريقيا، تتطلع إلى الاقتراب مجددًا من تشاد ودارفور (حيث اليورانيوم والنفط الواعد).
وروسيا التي تقاوم التدخل الأمريكي والأوربي الغربي في ليبيا لا يخطئها أن الصديق الليبي سيفضل عليها "صناع ثورته القادمة"، وسيدير ظهره لموسكو وشركاتها العاملة في ليبيا، وهذا ما دفعه إلى تحريك إحدى حليفاته العربيات لتزويد القذافي بالأسلحة، فضلاً عن احتمالية التدخل العسكري المباشر أو الدعم التسليحي لطرابلس، والذي ترددت أنباء عن حصوله بالفعل بواسطة بوارج حربية روسية تقترب هي الأخرى من الشواطئ الليبية.
أما عربيًّا، وعلى ذكر تلك الدولة، وهي سوريا التي أرسل نظامها بعض طياريها للقتال إلى جانب السفاح الليبي، والتي لا تخفي -كما الأخريات- انزعاجها من "ربيع الثورات العربية"، وتنزع إلى انتحاء المسلك الليبي في قمع شعبها الثائر، إن سعى إلى الثورة بدوره هذا الشهر.
سوريا إذن كاليمن والجزائر والسودان تدفع جميعها باتجاه كبح جماح الثورات، وقطع الطريق أمام "سابقة" التدخل العسكري، وهو الموقف الذي لا تشاطرها إياه الدول التي نجحت فيها الثورة جزئيًّا مثل مصر وتونس، لكنهما مع ذلك، وإن أبديا "تفهمًا" لمسألة الحظر الجوي على ليبيا إلا أنهما حذرتان جدًّا من ردة فعل الطاغية الليبي غير المحسوبة، وخصوصًا الأولى التي لا تريد أن تقامر بحياة مئات الآلاف من المصريين العاملين في ليبيا، هذا على اعتبار أن السياسة المصرية الخارجية بعد الثورة ستختلف جذريًّا عما كان قبلها لجهة عدم الارتهان للإرادة الأمريكية، وهو ما سيظل محل نظر كبير للمتابعين لتطورات الأوضاع في مصر ما بعد الثورة. (وتونس بالمثل أيضًا)، وبخلافهما يبدو الخليج معنيًّا بإرضاء الموقف الدولي الذي يدرك الساسة أنه بالغ التأثير في مستقبل الخليج الحذر من رياح الثورات المجاورة، وكذلك بتصفية حسابات قديمة مع العقيد، والحصول على ضمانات -ربما- بمقايضة الموقف من التدخل العسكري في ليبيا كما العراق من قبل.
وبالجملة، فإن المواقف العربية المختلفة التي تجمعها عادة الرغبة الأمريكية في صياغة قرار ما متوقعة، ولا تخرج كثيرًا عن المألوف، وهي في مجموعها لا تتعلق بالجانب الاقتصادي، بخلاف الأوربية التي ارتكز الفرز فيها على أسس براجماتية اقتصادية في معظمها، والتي أدت إلى هذا التنوع والاختلاف العميق بين الدول الأوربية والولايات المتحدة بعضها مع بعض، والذي خلّف هذا التردد في اتخاذ القرار لدى البعض، والتمهل ريثما يلتصق الموقف الثوري الليبي بالغربي، ويمنح الغازي أقصى درجات الخضوع (أو هكذا تبغي تلك الدول)، لا سيما أن رصدًا بأهم الثروات القذافية المجمدة بالمليار دولار (30 بالولايات المتحدة، و32 ببريطانيا، و10 بألمانيا) يبرهن على أن العقيد "الثائر" لم يكن إلا وكيلاً عن الدول الغربية في ليبيا، ومن غير اليسير توفير "زعيم مناضل" آخر ليحل محله في مهمته "الثورية"!
على أن هذا اختلاف المصالح الاقتصادية ليس الدافع الأوحد لاتخاذ هذا الموقف المتأرجح أو المتباطئ من مساندة الثوار؛ فالخلفية الدينية التي بدأت ترتسم في المشهد الثوري أو التي باتت عمودًا أصيلاً من أعمدة الثورة، والخشية من إنضاج ثورات مستقلة ولو لم تكن إسلامية بالضرورة، يمكنها أن تراجع وتدقق في العقود النفطية الخرقاء التي كان يوقعها العقيد من خيمته، والتي جعلت معظم استثمارات ليبيا في حوزة الغرب، سواء من ما يتعلق بعائدات النفط أم شركات التنقيب والتكرير وغيرها، بما لا يحلم به الغرب في ظل نظام يتمتع بالشفافية.
وهو ما يعبر عنه غير دبلوماسي وسياسي وخبير في الشئون الاستراتيجية، ومنهم جيمس هاكيت من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية الذي قال: "المشكلة هنا هي أنك يجب أن تسأل نفسك ستسلح من؟ لأنك من المحتمل أن تتعامل مع مجموعة مختلفة من القبائل والمجتمعات التي لديها أجندات مختلفة تمامًا قد تبرز بمجرد رحيل القذافي". و"مشكلة هاكيت"، وعدد من الصحف البريطانية كذلك -ومنها صنداي تايمز التي قالت من جهتها: "إن ليبيا تعاني من نزاعات قبلية، ولا ضمان هناك بأن الحكومة الجديدة ستكون في النهاية أفضل من نظام القذافي"- في رأيي يتعلق أكثر ليس بمسائل قبلية كما يقول، وإنما بتخوفات دينية، قد تهيئ لها دولة لا مركزية أو حُرَّة أو حتى دويلات ممزقة المناخ اللازم لمحو الصورة التي كانت عليها ليبيا خلال العقود الأربعة الماضية، التي كان يلاحق فيها المصلون ويوصف المتدينون فيها بالجرذان والكلاب الضالة!
هذه الدولة الليبية المستقلة هي ما يخشاها الغرب، لا سيما بعد أن بدأت بوادر غير مشجعة لدى الجارة المصرية التي لا يتوافر لدى العواصم الغربية الاطمئنان الكافي على مستقبلها في ظل مستقبل ضبابي يكتنفها، وهذا ما يعزز فرص التدخل العسكري الغربي الذي بدت نواجزه الآن برغم كل الاحتياطات المشار إليها هنا؛ فحيث تتحرك الأساطيل تسبقها إشارات دبلوماسية وتكهنات صحفية من دوائر قريبة من صناع القرار في الغرب، ويرفع العرب مظلتهم "الشرعية والقانونية" لتبرير التدخل العسكري الذي قد لا يقتصر -غالبًا- على فرض الحظر الجوي (تحت ذريعة عدم كفايته العسكرية لإخضاع العقيد)؛ فإن تجاهل الغرب للفرصة المواتية لتدخله في ليبيا هو أمر مستبعد بطبيعة الحال.
وإذا ما ترجح التدخل فإن شكله ومجاله وحجم المشاركة فيه وأهدافه ومدته يظل رهينًا بالوضع الميداني، ومدى رغبة بعض الأطراف في إطالة أمده واستنزاف قدرة الثوار على التحرك بشكل منفرد بعيدًا عن الغرب، وعن طلب التدخل لمساعدتهم، والثمن الذي يريده الغرب من الحكم الجديد في ليبيا؛ إذ يدرك الجميع أن نظام القذافي قد انتهى مهما تمكن من تحريك جحافله شرقًا؛ لأن استمراره في الحكم حتى لو استطاع إخماد الثورة تمامًا - هو محل نظر شديد من كافة القوى الدولية والإقليمية، وعليه فإن مستقبل ليبيا -يدرك الجميع- لن يشمل صورة القذافي وأبنائه.
نحن -إذن- إزاء تدخل محتمل بدرجة كبيرة لا يتوقف بالضرورة عند الحظر الجوي، وهكذا بدأ القادة العسكريون الغربيون يلمحون، وأمام سيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، ما بين التقسيم العملي لليبيا على أرضية الدعم المحدود للطرفين مع إبقاء الحظر الجوي قائمًا (النموذج البوسني)، وهو ما تتحسب له دول عربية أخرى لها جغرافيا وديموجرافيا مشابهة للوضع الليبي أيضًا، وما بين الغزو العسكري طويل الأمد والإطلال -ربما- على وسط إفريقيا ودارفور، أو الغزو قصير الأمد مع الاحتفاظ بقواعد عسكرية على حدود مصر الشرقية، وتلبية مطامع البنتاجون في إيجاد مقر لقوات أفريكوم في الشمال الإفريقي بعد أن رفضتها أبرز الدول الإفريقية من قبل.
وفي مناخ مهيَّأ للغاية للتدخل العسكري يصنعه عبيد الكراسي من أمثال العقيد الهائج -ونظرائه- والذي يحملهم على تعريض أمن دولهم القومي لأفدح المخاطر، والرهان بشعوبهم على طاولة قمار الغرب، واستخدام جيوشهم لتعبيد الطريق للغزاة حينما تدير فوهات أسلحتها لشعوبها الحرة، وتولي ظهرها للغزاة و"المستعمرين"؛ فقديمًا قال الصهاينة -زورًا-: وجدنا بلدًا بلا شعب فاحتللناه، واليوم سيقول الغرب: وجدنا بلدًا بلا جيش فدخلناه، وعقيدًا بلا عقل فامتطيناه.
المصدر: موقع المسلم.