1 أمكنة مغبرة وموغلة في البؤس: زاوية سيدي إسماعيل، بلاد الحلاقي والفول السبت يوليو 10, 2010 6:34 am
doukali
عضو نشيط
موجز: زاوية سيدي إسماعيل (إقليم الجديدة) هي ملتقى الطرق المؤدية من البيضاء إلى مراكش وأسفي وأكادير. هي بالنسبة للمسافرين محطة استراحة وأكل الشواء وشرب الشاي المنعنع وأكل الكرموس. هي كما يحلو للبعض أن يسموها، فضاء للتبضع وقضاء مآرب أخرى منسجمة مع الضوضاء المشكلة بإيقاع السيارات والناقلات وصراخ الباعة الممزوج بأغاني الكاسيط.
.
زاوية سيدي اسماعيل من القرى والمراكز القديمة جدا بدكالة، سواء من حيث تاريخ رجالاتها الكبار، كالشيخ سيدي اسماعيل بوسجدة (أو كما يسمونه الشيخ السارية، نسبة إلى قيامه وإطالته للصلاة وشدة تعبده). كان الشيخ فقيها عالما درس على يد أئمة وفقهاء كبار بتمحضيت وبمراكش. اشتهر بغزارة علمه وورعه الشديد، ولقب بالمجاهد الكبير ضد المستعمر الغاشم، واسس زاوية للعلم بالقرية يأتي إليها الطلبة والفقهاء من كل حدب. حكاية هذا الشيخ أكسبت القرية موقعا استراتيجيا، فهي ملتقى الطرق المؤدية من البيضاء إلى مراكش وأسفي وأكادير. هي بالنسبة للمسافرين محطة استراحة وأكل الشواء وشرب الشاي المنعنع وأكل الكرموس. وأنت داخل إليها تستقبلك أشجار الكالبتوس الهرمة من كل ناحية واتجاه. تتناثر على جنباتها مقاه ودكاكين للبيع والشراء والباعة الجوالة وبائعي الديطاي والبيض واللبن، وكل أشكال التسول.. هي كما يحلو للبعض أن يسموها، فضاء للتبضع وقضاء مآرب أخرى منسجمة مع ضوضاء المشكلة بإيقاع السيارات والناقلات وصراخ الباعة الممزوج بأغاني الكاسيط التي تتوزع بين الستاتي والشيخات وفوضى المشردين، تثير الانتباه مع صراخ الدجايجيه في المقاهي وأصحاب صايكوك وكورتيات الطاكسيات. هذا الخليط هو أكثر من سمفونية تحتاج إلى قائد أوركسترا للعزف: هم هؤلاء المجانين و»المسطيين» الذين يتناسلون بكثرة، ويتجددون كل شهر، حتى أن أسماءهم تكبر في الآذان بترنيمة خاصة (حميد، الشراف ، الكيلو، مصطفى.. وشاربي الجانكا والماحيا، وآٌخرون يفترشون الأمكنة والزوايا المحدودبة لطبخ بقايا نهارهم وللتجول حفاة عراة.. الكثير منهم رمتهم حافلات الشمال ومدن لم يجدوا فيها مآربهم).
زاوية البؤس
أمكنة مغبرة تعيش بؤسها منتشية بعدم الاهتمام والصمت المطبق عليها. قنوات الصرف والقاذورات تنساب متحركة كأفاعي بين أزقة ودروب المركز وقمامات الأزبال، تحرك أذنابها وتبسط أحضانها لمئات القطط والكلاب الضالة، ولا من يحرك ساكنا في انتظار أن يمر عليها علال. علال وحده الشخص الذي ينتقم منها وتسخر منه بالنكات الملتفة في جيبه الخلفي، كساعي بريد سيدي اسماعيل الوحيد حين تسأله: أين ترمي الأزبال يا علال؟ فيجيبك بسذاجة البدو: «في السوق، ومّال آشفيها هوما اللي كَالوها ليا». يحمل برويطته كلما امتلأت، ويتجه لرميها في السوق القديم.. السوق الذي كان إلى زمن قريب سوقا أسبوعيا يوازي الأسواق الكبرى في سيدي بنور والزمامرة، بقيت فقط آثاره أطلالا: هنا رحبة الزرع، وهناك الكَورنا.. هنا بائعو الحلوى والفول وزنقة الكتان، وقرب البئر يستمتع الكل بحلقة (الصاروخ) وولد قرد وزعطوط الذي يفتن بقامته وبكلماته. مرة قدمت له قطعة نقدية نحاسية، تأملها طويلا، وقال لي: «ألا تعرف أين تضع هذه الجفنة النحاسية.. تحميها وتضعها على مؤخرة…» احمر وجهي، وتوالت الضحكات، ولم أنسل خوفا كالغير، بل ثبت في مكاني لأني أعرف أنه لا يترك أية حركة بدون معنى. دار دورتين وعاد مخاطبا إياي: «الدري ثابت.. في لرض..»، وانفرط الجميع في الضحك. إنه مفخرة دكالة وسيدها الجامع المانع، ينقلك من الحلقة إلى عوالم كلها سخرية ومفارقات حين ينثال اليومي مع إكراهات الحياة الواقعية مع المحتمل وروح الحكي والدعابة في أعلى تجلياتها.. يترك السامع مشدودا إليه حين يحمل آلته الكارطونية المدورة إلى جهة بطنه ويندفع متمردا مع وضد الكل، بحركات تشبه جذبة شيخ أو حصان جامح. هذا الجسد الهرقلي الدكالي الأصيل له صوت قوي وحضور ملحوظ بروح النكتة والتعبير المستملح الفكاهي.. والحذر كل الحذر منه حين يتيه بك في متاهات النص والمعنى وفخاخ القول المعقود. لا يمكنك أن تنزاح هكذا عن حلقته ولا تشدك حلقات أولاد الرمى، والشيخات، أومول السويرتي مولانا، ومول الحناش والأفاعي. ما كان يغضبني هو رؤية الرجل الذي يرتدي لباس النساء ويرقص، وهم ينادونه الشريف. أسرق النظر إليه لأعرف هل هو امراة حقا أم رجل. أجلس على محفظتي ساعات طوال، حتى ولو حضرت متأخرا إلى المدرسة، لأن السبب كما يعرف معلمي هو يوم السوق.. السوق الذي يعتبر بمثابة العيد لدينا نحن سكان البادية، حيث ليلتها نأكل اللحم والخضر، وتجتمع العائلة فيما يشبه السهرة، مسمرين وراء أو جنب الأمهات والآباء، نختلس النظر والسمع إلى ما يقوله الكبار. في حلقة السوق نستمتع بفنون ثقافة بدأت في الانقراض الآن وانحصرت فقط على مرمى مواسم سنوية حين هبت رياح التغيير على زاوية سيدي اسماعيل.. بتغيير المجلس تغيرت الطريق بوضع رصيف ضيق وسطه.. ويقولون إن ذلك كان مقصودا لإعلان إفلاس وإغلاق دكاكين الجزارة والحوانيت تحت بوادر الكساد وقلة البيع والشراء. انتقل السوق إلى مكان بعيد، إلى بلاد جورج في مكان حيث الريح والعجاج يصفر والأحجار تلتهمك، ولا طريق تؤدي إليه إلا طريق غبرة البياضا وأشغال مغشوشة لن تكتمل إلا بالحفر التي تترصدك للقبض عليك.. أماإذا كنت بسيارتك أو دراجتك، فتلك مشكلة أخرى.. وليس كل مرة تسلم الجرة.
مكان الأسياد
السوق الآن بضعة خيام (قياطن) مؤثثة للريح هنا وهناك، وأذرع العربات تحن إلى ميلادها وتهب النهاية لكل عابر.. والاستماع إلى صراخ حيوانات مربوطة اليها.. أذكر الآن أول يوم للسوق الجديد، تسابقت النسوة إلى البوطوار لاستغلال مياه الذبائح في أمور العنوسة والزواج، وأمور أخرى كانت تقام هناك، حتى أن الصرر والتمائم تباع أسفل الشاريج.. خيام الشعوذة والسحر والكتابه صف طويل بسوق القرية إلى جانب صف بائعي الأواني وبائعي القنب والحديد والمفاتيح والفاكية والخضر والسردين والكابايله بعينيها المغمضتين لها أكثر من طعم، ترى المتسوقين رفقة زوجاتهم وبناتهم يشربون الشاي المنعنع في خيمة ولد العبدي، أو عند امي خدوج. تستهويني تلك العادة، شرب الشاي المنعنع وأكل الفول.. كنا ومازلنا نمارس هذه اللعبة زمرة من الطلبة، نمر فرادى أمام بائعي الفول، كل واحد يسأل عن الثمن ويحفن ليضعها أخيرا في كيس أحمله، وانا في آخر الصف، أميز بين الفول والحمص.. نجلس على الحصير ونطلب الصينية بكؤوس الشاي المنعنع والفول الذي يحلو لنا أن نسميه لوز دكالة. والغريب أننا نظل نرقب البدويين وهم يلتهمون بغرابة الإسفنج والفول والحوت والعنب والدلاح والحمص. مرة قال لي صديق، ونحن بأحد أسواق الجنوب، مثيرا دهشتي: هل هذه أسواق؟ السوق الذي لا يباع فيه الفول ليس بسوق بتاتا. الآن أصبحت الخيام منصوبة للشاي والشواء بعد كل عملية بيع أو شراء، يلتقي فيها الأحبة والأصدقاء.
على إيقاع صوت البوق الذي يرغب ويمني المتسوقين لشراء سلعه ونموذج من الأواني والأدوية (دوا البرغوت والقمل وغبرة الفار الغدار الذي يدخل الدار بلا شوار..).
بزاوية سيدي اسماعيل أضرحة كثيرة ومختلفة: سيدي عيسى يحتاجه السكان لالتهاب اللوزتين، وسيدي بوقنادل وسيدي بورثما ولالة زهرا البوهالية للأمراض النسائية وللحوامل، وسيدي عبد الرحمان موسم للفروسية. أضرحة متناثرة هنا وهناك، يهب إليها الناس للتبرك أو للتداوي.