1 مهمة الشاعر في الحياة الخميس مارس 04, 2010 9:51 am
حواء
مشرف عام
الشعر حالة إنسانية راقية, وعين راصدة لمجريات الحياة ودقائقها, وترجمة لمشاعر دافقة, وسمو بالعقل والقلب, لا يصل إلى القارئ إلا عبر جمل مترابطة, وصور جميلة, وموسيقى دافئة. تعبّر عن مكنونات النفس, وعن مجريات العصر, وتثير أسئلة الوجود, وتدعو للتأمل والتفكير. هو حالة شعورية فكرية, تثير الحواس كلها, تفعّلها, تسمو بها, ليس رصفاً للكلمات, ولا وصفاً بليداً للصور والأحداث, هو فهم وشعور, وإحساس ومسؤولية. والشاعر هو ذلك الإنسان, الذي يملك من أدوات التعبير والتفكير ما يستطيع من خلاله تجسيد الحياة شعراً.
مهمة الشاعر في الحياة
كتيب صغير لا تزيد صفحاته عن المئة, من القطع الصغير, حمل عنوان "مهمة الشاعر في الحياة", كُتب سنة 1932م وهو كما قال عنه مؤلّفه سيد قطب: " أعدّ ليكون محاضرة فحسب". ولكن هذه المحاضرة كانت غنيّة, لدرجة تُشعر من يقرأها بنبوغ كاتبها وعلو مكانته في مجال النقد والتذوق الأدبي والشعري.
تحدث الكاتب في هذا الكتيب عن مهمة الشاعر في الحياة, ومن هو الشاعر؟, وتحدث عن الخيال في الشعر, وعن ذوق الشاعر, كما تحدث عن التعبيرات الشعرية, ثم ختم محاضرته بالحديث عن شخصية الشاعر. وقد تعمّد الكاتب اختيار الأمثلة الشعرية من مجهود الشبان الناشئين في ذاك الزمان زمن شوقي والعقاد وحافظ ابراهيم والمازني ويقول: "إنني لمستريح إلى أن أكون واسطة تعارف بين المشتغلين بالأدب, وبين خمسة من الشعراء الحدثين الذين تجرفهم الشهرة الزائفة والصحيحة في تيارها, وقد تغشى عليهم فلا يسمع لاصواتهم صدى, وسط ضجيج الشهرة وصخب المشهورين".
الشاعر والفيلسوف :
يحاول الكاتب أن يبيّن لنا من هو الشاعر الحقيقي, ويقول إن الشاعر أعرف بالحقيقة من الفيلسوف "أما الفيلسوف فيأخذ مكانه في معزل عن الحياة بقدر ما تهيء له طبيعته, ويشرف عليها من علٍ ثم يسجل حركاتها ويحصي ظواهرها كما يتصورها بفكره وعاطفته جميعاً. أما الشاعر فينغمس في الحياة, يحس باحساسها ويشعر بشعورها ويتفاعل وإياها, ثم يتحدث عنها بما يحس, أو بما تريد هي أن تحدّث عن نفسها"
لذلك فإن الشاعر عنده هو من يحس بالحياة إحساساً عميقاً ويترجم عنها للأحياء, ولذلك يجب أن يكون إحساسه بالحياة أدق وأعمق من إحساس الجماهير, كما أنه يجب عليه أن يعبر عما يحسه بهذه الطريقة تعبيراً أسمى من تعابير الجماهير. ويضرب لذلك مثلاً فيقول : "تجد بعض من يدعون أنفسهم أو تدعوهم الجماهير شعراء, تجده يصف لك الليل فلا يعدو أن يقول إن الجو ظلام والحركة هادئة والأحياء كلهم ساكنون, وهو إذ يقول ذلك في ثوب خلاب من الألفاظ وبريق وهاج من الأسلوب يعد نفسه أدى واجبه كشاعر, وخلص من ذلك الواجب السامي الذي ناطته به الحياة. ولكنا لا نريد أن نقبل منه هذا الإحساس السطحي الزهيد الذي لا يبعد على كل إنسان أن يدركه لأنه يتعلق بالعين والأذن ولكل فرد من الناس عين وأذن, إنما نريد أن يحدثنا الشاعر عن أثر ذلك الهدوء في نفسه وروعة هذا الظلام في خاطره".
وقد مثّل لقوله بأبيات لعلي أفندي عبد العظيم في وصف الليل يقول فيها :
مد الظلام على الآفاق سلطانا وطوّق الليل ودياناً وكثبانا
وبات يسبح فكري في غياهبه حتى لتحسبه في الكون ربّانا
وراح يصطحب الأزمان مقتحماً ما لم يحن وقته منها وما حانا
ما أنت ياليل إلا مسرح حجبت أستاره خلفها أسرار دنيانا
طويت أسرار هذا الكون في سدف لا نستطيع لها كشفاً وتبياناً
يا ليل بح لي بها إن كنت تعلمها يا ليل حسبك إخفاءً وكتمانا
ثم يميز الكاتب بين الشاعر والمصوّر :
فالشاعر كما يقول:" لديه متسع لتسلسل المعاني وعرضها من البدء للنهاية, أما المصور فلا يستطيع أن يعرض الفكرة من مبدئها إلى نهايتها بل يعمد إلى أظهر حلقة منها وأبرز نقطة فيلتقطها ويصورها ويدع للناظر بعد ذلك أن يبحث عن أوائل السلسلة ويتتبع أواخرها"
والتصوير الذي يقدمه الشاعر لا يجمد عند الصور الحسية بل يدع للخيال سبيلاً للعمل حول هذه الصور مثل قول فؤاد الخطيب :
بلداً كأن يـداً دحته فخرّ من قلل الجبال ممزق الأوصال
فهنا الصخور على الصخور تحطمت وهناك منه حقيقة كخيال
ثم يقدم الكاتب بعض النماذج من شعر مشهور ينتقد فيه قائله لأنه لم يحسن التصوير, كالبيت المشهور:
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد
فالشاعر هنا ـ برأيه ـ قد حشر مجموعة لأشياء بيضاء وحمراء ليس بينها من علاقة إلا علاقة الألوان وإلا فأية علاقة بين الدمع واللؤلؤ وبين العناب والأنامل وبين السن والبرد؟.
مهمة الخيال
يتحدث الكاتب هنا عن مهمة الخيال, فيقول: "ليست مهمة الخيال إذن أن يشتط ويبعد عن الحقيقة حين يجدها, وهو إذ يصنع ذلك يفقد طبيعته التي هي ربط الصلة بين الفكر والحقيقة التي لم يهتد إليها بعد أو بين الإنسان وآماله المترامية حيث تنتهي مهمة الخيال ويكون قد أدى واجبه المطلوب منه.......ويقال هنا إن الشعر الذي يعبر عن الحقيقة قد يفقد شاعريته وموسيقاه, ويصبح فلسفة مجردة جافة, لا دخل فيها للشعور إلا بمقدار ...وجوابنا أن الشعر في الواقع يعبر عن الحقيقة ولكن الحقائق التي يعبر عنها الشعر من نوع آخر غير الحقائق التي تعنى بها الفلسفة, هي حقائق الإحساس الخفي, التي قد يختلف في تقديرها كل فرد عن الآخر"
وهو بهذا لا يأخذ بمقولة "أجمل الشعر أكذبه" لأن الشاعر عنده أصدق إحساساً لأنه أكثر إدراكاً وشعوراً بالحقيقة الطبيعية الخام. ويضرب لذلك مثلاً قول شاعر ناشيء في وصف الصباح:
نـسمات زفّها الفجر iiالوليد
ناعمات مثل أنفاس iiالورود
كانت الدنيا يغشيها iiالسكون
طفلة قد ضمّها الليل iiالحنون
بعد ما جاش بها صدر الحياة
بـلّل الطل شــذاها iiبنداه
وظـلام الليل والنوم iiالعميق
ضمّة الرحمة كالأمّ iiالشفوق
وفي مجال الخيال يتحدث الكاتب عن الخيال الشعري والمبالغة وعن تناسق الخيال, فالشاعر يقول:
خيم الصمت فوقها والظلام وغزا النوم ساكنيها فناموا
فكلمة غزا هنا تحدث ضجة وجلبة لا تليق بهذا الصمت المخيّم, وذلك النوم الذي لا حراك فيه, وهي تحدّ من جوانب هذا الجلال النائم, وتوقظه من سباته الرهيب, حينما تلقي في الذهن صورة للغزو مصحوبة بالصخب والضجيج.
وتحدث الكاتب عن الذوق الشعري وأثر البيئة في الذوق والشعور والخيال, ويبهرنا الكاتب بنقده للفكرة التي تقول إن البيئة العربية أصلح البيئات للشعر فالجبال والصحراء والسماء الصافية كلها من الهيئات المساعدة . وهذه الفكرة في نظره تأخذ بجانب واحد من جوانب البحث وتدع بقية الجوانب, فالبيئة العربية توحي بالشعر لكنه الشعر الذي يضم إلى تنافر الأخيلة كثيراً من السطحية التي لا تمتد إلى ما وراء الظواهر, وهذه البيئة في نظره مع وضوحها وبساطتها لا توازن بالبيئات المزدوجة المركبة فعندما يقول الشاعر :
ودمية عند راهب ذي اجتهاد صوروها بجانب المحراب
فهذا عنده خيال مركب وإحساس عميق لم يكن ليكون إلا في العصر العباسي وإلا من شاعر منتظم الفكر والتصور.
التعبيرات الشعرية
يختم الكاتب محاضرته بالحديث عن التعبيرات الشعرية من ناحية تصويرها للمعاني والأخيلة, وضرب مثلاً قول عمر بن أبي ربيعة:
إن خير النساء عندي طرّاً من تواتي بوصلها ما هوينا
فاذكري العهد والمواثيق منا يوم آليت لا تطيعين فينا
فيقول: "فإن (لا تطيعين فينا) بهذا الغموض الذي أنتجه حذف المفعول فيها من الروعة ما فيها, ولكنه أفسد علينا هذه الروعة المبهمة فقال بعد ذلك :
قول واشٍ أتاك عنا بصرم أو نصيح يريد أن تقطعينا
وقد كنا في غنى عن ذكر المفعول الذي لم يأتينا بشيء جديد من عنده فقد فهمنا من (يوم آليت لاتطيعين فينا) أنها لن تطيع (قول واش ولا نصيح) وأحسسنا ما هو أكبر من ذلك, وهو أنها غير مستعدة أن تستمع مجرد استماع لمن يحدثها عنه".
تعليق
قدّم الكاتب محاضرة قيّمة, نبّهتنا إلى أمور هامة, وأكد الكاتب أن الشاعر يستطيع أن يعطي صورة لعصره في الوقت الذي يتحدث فيه عن نفسه وخواطره وخلجاته, بصدق وتناسق وذوق ومسؤولية.
وهو بهذا يعطينا مفهوماً خاصاً للشعر, حيث يجعل منه وسيلة من وسائل النهضة المجتمعية, ويعتبر الشاعر صاحب مهمة ورسالة يتحمّل مسؤولية ايصالها للناس, هدفها توضيح الصورة, بشكل يثير الفكر والشعور, استعداداً للإنطلاق والتفاعل مع الحدث. فليست مهمة الشاعر إذاً رسم صورة للحدث فقط, بل إن مهمته تنطلق إلى أفق أرحب وأعمق, هي تصل إلى حد التأثير المحفّز للتفاعل.
وهنا قد يتساءل أحدنا: ألا يتحول الشعر بهذا المعنى إلى صنعة؟, ألن تحوّل هذه النظرة الشاعر إلى موظّف عليه المراقبة والتحليل؟ أين الوجدانية هنا؟
وأجيب, إن الشعر حالة وجدانية ومشاعر تتفاعل في النفس لا يستطيع المرء حبسها, فتنطلق على شكل كلمات وصور تعبر عن حالة الشاعر, فهو وسيلة من وسائل التعبير عن النفس سواء في الفرح أو الحزن أو العشق أو التفكير أو الإنبهار والإسترخاء ...إلخ .
وعلى هذا فالشعر ليس صناعة هو انطلاق مشاعر, يحركها فكر وعقل وإدراك.
وقد أعجبني تعريف الشاعر السعودي إبراهيم الوافى للشعر حين قال: "الشعر ما حاك فى صدرك وحرصت ان يطلع عليه الناس", إلا أنني أعدّل فأقول: الشعر ما حاك في صدرك وعجزت عن منعه عن الناس, تماماً كالدموع أو الضحكات التي تنطلق معبرة عن حالة الإنسان دون أن يستطيع دفعها. ولكنه بنفس الوقت مسؤولية, تقتضي من الشاعر أن يكون أكثر وعياً وأكثر صدقاً, وأكثر تفاعلاً مع عصره ومجتمعه, وهنا يمكن أن نصف الشاعر بأنه ضمير الأمة, أو هو بصرها وبصيرتها. فهل يدرك شعراؤنا مهمتهم في الحياة؟
مهمة الشاعر في الحياة
كتيب صغير لا تزيد صفحاته عن المئة, من القطع الصغير, حمل عنوان "مهمة الشاعر في الحياة", كُتب سنة 1932م وهو كما قال عنه مؤلّفه سيد قطب: " أعدّ ليكون محاضرة فحسب". ولكن هذه المحاضرة كانت غنيّة, لدرجة تُشعر من يقرأها بنبوغ كاتبها وعلو مكانته في مجال النقد والتذوق الأدبي والشعري.
تحدث الكاتب في هذا الكتيب عن مهمة الشاعر في الحياة, ومن هو الشاعر؟, وتحدث عن الخيال في الشعر, وعن ذوق الشاعر, كما تحدث عن التعبيرات الشعرية, ثم ختم محاضرته بالحديث عن شخصية الشاعر. وقد تعمّد الكاتب اختيار الأمثلة الشعرية من مجهود الشبان الناشئين في ذاك الزمان زمن شوقي والعقاد وحافظ ابراهيم والمازني ويقول: "إنني لمستريح إلى أن أكون واسطة تعارف بين المشتغلين بالأدب, وبين خمسة من الشعراء الحدثين الذين تجرفهم الشهرة الزائفة والصحيحة في تيارها, وقد تغشى عليهم فلا يسمع لاصواتهم صدى, وسط ضجيج الشهرة وصخب المشهورين".
الشاعر والفيلسوف :
يحاول الكاتب أن يبيّن لنا من هو الشاعر الحقيقي, ويقول إن الشاعر أعرف بالحقيقة من الفيلسوف "أما الفيلسوف فيأخذ مكانه في معزل عن الحياة بقدر ما تهيء له طبيعته, ويشرف عليها من علٍ ثم يسجل حركاتها ويحصي ظواهرها كما يتصورها بفكره وعاطفته جميعاً. أما الشاعر فينغمس في الحياة, يحس باحساسها ويشعر بشعورها ويتفاعل وإياها, ثم يتحدث عنها بما يحس, أو بما تريد هي أن تحدّث عن نفسها"
لذلك فإن الشاعر عنده هو من يحس بالحياة إحساساً عميقاً ويترجم عنها للأحياء, ولذلك يجب أن يكون إحساسه بالحياة أدق وأعمق من إحساس الجماهير, كما أنه يجب عليه أن يعبر عما يحسه بهذه الطريقة تعبيراً أسمى من تعابير الجماهير. ويضرب لذلك مثلاً فيقول : "تجد بعض من يدعون أنفسهم أو تدعوهم الجماهير شعراء, تجده يصف لك الليل فلا يعدو أن يقول إن الجو ظلام والحركة هادئة والأحياء كلهم ساكنون, وهو إذ يقول ذلك في ثوب خلاب من الألفاظ وبريق وهاج من الأسلوب يعد نفسه أدى واجبه كشاعر, وخلص من ذلك الواجب السامي الذي ناطته به الحياة. ولكنا لا نريد أن نقبل منه هذا الإحساس السطحي الزهيد الذي لا يبعد على كل إنسان أن يدركه لأنه يتعلق بالعين والأذن ولكل فرد من الناس عين وأذن, إنما نريد أن يحدثنا الشاعر عن أثر ذلك الهدوء في نفسه وروعة هذا الظلام في خاطره".
وقد مثّل لقوله بأبيات لعلي أفندي عبد العظيم في وصف الليل يقول فيها :
مد الظلام على الآفاق سلطانا وطوّق الليل ودياناً وكثبانا
وبات يسبح فكري في غياهبه حتى لتحسبه في الكون ربّانا
وراح يصطحب الأزمان مقتحماً ما لم يحن وقته منها وما حانا
ما أنت ياليل إلا مسرح حجبت أستاره خلفها أسرار دنيانا
طويت أسرار هذا الكون في سدف لا نستطيع لها كشفاً وتبياناً
يا ليل بح لي بها إن كنت تعلمها يا ليل حسبك إخفاءً وكتمانا
ثم يميز الكاتب بين الشاعر والمصوّر :
فالشاعر كما يقول:" لديه متسع لتسلسل المعاني وعرضها من البدء للنهاية, أما المصور فلا يستطيع أن يعرض الفكرة من مبدئها إلى نهايتها بل يعمد إلى أظهر حلقة منها وأبرز نقطة فيلتقطها ويصورها ويدع للناظر بعد ذلك أن يبحث عن أوائل السلسلة ويتتبع أواخرها"
والتصوير الذي يقدمه الشاعر لا يجمد عند الصور الحسية بل يدع للخيال سبيلاً للعمل حول هذه الصور مثل قول فؤاد الخطيب :
بلداً كأن يـداً دحته فخرّ من قلل الجبال ممزق الأوصال
فهنا الصخور على الصخور تحطمت وهناك منه حقيقة كخيال
ثم يقدم الكاتب بعض النماذج من شعر مشهور ينتقد فيه قائله لأنه لم يحسن التصوير, كالبيت المشهور:
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد
فالشاعر هنا ـ برأيه ـ قد حشر مجموعة لأشياء بيضاء وحمراء ليس بينها من علاقة إلا علاقة الألوان وإلا فأية علاقة بين الدمع واللؤلؤ وبين العناب والأنامل وبين السن والبرد؟.
مهمة الخيال
يتحدث الكاتب هنا عن مهمة الخيال, فيقول: "ليست مهمة الخيال إذن أن يشتط ويبعد عن الحقيقة حين يجدها, وهو إذ يصنع ذلك يفقد طبيعته التي هي ربط الصلة بين الفكر والحقيقة التي لم يهتد إليها بعد أو بين الإنسان وآماله المترامية حيث تنتهي مهمة الخيال ويكون قد أدى واجبه المطلوب منه.......ويقال هنا إن الشعر الذي يعبر عن الحقيقة قد يفقد شاعريته وموسيقاه, ويصبح فلسفة مجردة جافة, لا دخل فيها للشعور إلا بمقدار ...وجوابنا أن الشعر في الواقع يعبر عن الحقيقة ولكن الحقائق التي يعبر عنها الشعر من نوع آخر غير الحقائق التي تعنى بها الفلسفة, هي حقائق الإحساس الخفي, التي قد يختلف في تقديرها كل فرد عن الآخر"
وهو بهذا لا يأخذ بمقولة "أجمل الشعر أكذبه" لأن الشاعر عنده أصدق إحساساً لأنه أكثر إدراكاً وشعوراً بالحقيقة الطبيعية الخام. ويضرب لذلك مثلاً قول شاعر ناشيء في وصف الصباح:
نـسمات زفّها الفجر iiالوليد
ناعمات مثل أنفاس iiالورود
كانت الدنيا يغشيها iiالسكون
طفلة قد ضمّها الليل iiالحنون
بعد ما جاش بها صدر الحياة
بـلّل الطل شــذاها iiبنداه
وظـلام الليل والنوم iiالعميق
ضمّة الرحمة كالأمّ iiالشفوق
وفي مجال الخيال يتحدث الكاتب عن الخيال الشعري والمبالغة وعن تناسق الخيال, فالشاعر يقول:
خيم الصمت فوقها والظلام وغزا النوم ساكنيها فناموا
فكلمة غزا هنا تحدث ضجة وجلبة لا تليق بهذا الصمت المخيّم, وذلك النوم الذي لا حراك فيه, وهي تحدّ من جوانب هذا الجلال النائم, وتوقظه من سباته الرهيب, حينما تلقي في الذهن صورة للغزو مصحوبة بالصخب والضجيج.
وتحدث الكاتب عن الذوق الشعري وأثر البيئة في الذوق والشعور والخيال, ويبهرنا الكاتب بنقده للفكرة التي تقول إن البيئة العربية أصلح البيئات للشعر فالجبال والصحراء والسماء الصافية كلها من الهيئات المساعدة . وهذه الفكرة في نظره تأخذ بجانب واحد من جوانب البحث وتدع بقية الجوانب, فالبيئة العربية توحي بالشعر لكنه الشعر الذي يضم إلى تنافر الأخيلة كثيراً من السطحية التي لا تمتد إلى ما وراء الظواهر, وهذه البيئة في نظره مع وضوحها وبساطتها لا توازن بالبيئات المزدوجة المركبة فعندما يقول الشاعر :
ودمية عند راهب ذي اجتهاد صوروها بجانب المحراب
فهذا عنده خيال مركب وإحساس عميق لم يكن ليكون إلا في العصر العباسي وإلا من شاعر منتظم الفكر والتصور.
التعبيرات الشعرية
يختم الكاتب محاضرته بالحديث عن التعبيرات الشعرية من ناحية تصويرها للمعاني والأخيلة, وضرب مثلاً قول عمر بن أبي ربيعة:
إن خير النساء عندي طرّاً من تواتي بوصلها ما هوينا
فاذكري العهد والمواثيق منا يوم آليت لا تطيعين فينا
فيقول: "فإن (لا تطيعين فينا) بهذا الغموض الذي أنتجه حذف المفعول فيها من الروعة ما فيها, ولكنه أفسد علينا هذه الروعة المبهمة فقال بعد ذلك :
قول واشٍ أتاك عنا بصرم أو نصيح يريد أن تقطعينا
وقد كنا في غنى عن ذكر المفعول الذي لم يأتينا بشيء جديد من عنده فقد فهمنا من (يوم آليت لاتطيعين فينا) أنها لن تطيع (قول واش ولا نصيح) وأحسسنا ما هو أكبر من ذلك, وهو أنها غير مستعدة أن تستمع مجرد استماع لمن يحدثها عنه".
تعليق
قدّم الكاتب محاضرة قيّمة, نبّهتنا إلى أمور هامة, وأكد الكاتب أن الشاعر يستطيع أن يعطي صورة لعصره في الوقت الذي يتحدث فيه عن نفسه وخواطره وخلجاته, بصدق وتناسق وذوق ومسؤولية.
وهو بهذا يعطينا مفهوماً خاصاً للشعر, حيث يجعل منه وسيلة من وسائل النهضة المجتمعية, ويعتبر الشاعر صاحب مهمة ورسالة يتحمّل مسؤولية ايصالها للناس, هدفها توضيح الصورة, بشكل يثير الفكر والشعور, استعداداً للإنطلاق والتفاعل مع الحدث. فليست مهمة الشاعر إذاً رسم صورة للحدث فقط, بل إن مهمته تنطلق إلى أفق أرحب وأعمق, هي تصل إلى حد التأثير المحفّز للتفاعل.
وهنا قد يتساءل أحدنا: ألا يتحول الشعر بهذا المعنى إلى صنعة؟, ألن تحوّل هذه النظرة الشاعر إلى موظّف عليه المراقبة والتحليل؟ أين الوجدانية هنا؟
وأجيب, إن الشعر حالة وجدانية ومشاعر تتفاعل في النفس لا يستطيع المرء حبسها, فتنطلق على شكل كلمات وصور تعبر عن حالة الشاعر, فهو وسيلة من وسائل التعبير عن النفس سواء في الفرح أو الحزن أو العشق أو التفكير أو الإنبهار والإسترخاء ...إلخ .
وعلى هذا فالشعر ليس صناعة هو انطلاق مشاعر, يحركها فكر وعقل وإدراك.
وقد أعجبني تعريف الشاعر السعودي إبراهيم الوافى للشعر حين قال: "الشعر ما حاك فى صدرك وحرصت ان يطلع عليه الناس", إلا أنني أعدّل فأقول: الشعر ما حاك في صدرك وعجزت عن منعه عن الناس, تماماً كالدموع أو الضحكات التي تنطلق معبرة عن حالة الإنسان دون أن يستطيع دفعها. ولكنه بنفس الوقت مسؤولية, تقتضي من الشاعر أن يكون أكثر وعياً وأكثر صدقاً, وأكثر تفاعلاً مع عصره ومجتمعه, وهنا يمكن أن نصف الشاعر بأنه ضمير الأمة, أو هو بصرها وبصيرتها. فهل يدرك شعراؤنا مهمتهم في الحياة؟