1 فلسطين.. القضية والحبيبة الخميس مارس 04, 2010 9:45 am
حواء
مشرف عام
قيل للشاعر جميل بثينة: لِمَ لا تمدح الخلفاء؟ فقال: أنا أمدح النساء!
في عهد الاستقرار أو التوسع والفتوحات، كعهد بني أمية كان من الطبيعي أن يظهر شعراء ينصرفون للغزل وحده أو (لمدح النساء)، مثل عمر بن أبي ربيـعة وجميل بثينة، أما حين نُتخطف في أوطاننا وتغتصب مقدساتنا، ويُغرز نصلّ في مهوى أفئدتنا (فلسطين)، فإن الأمر مختلف، واللحن أيضاً بالتالي سيختلف. وهكذا ظهر جيل، بل أجيال من شعراء القضية الفلسطينية.
ديوان (ياسمين الذاكرة) للصديق محمد شلال الحناحنة، أحد الأصوات الشعرية المستغرقة بالقضية، من بابها إلى محرابها (في أقل من مئة صفحة، وأكثر من خمس وعشرين قصيدة أو نشيداً): عن الغربة – المخيمات – المعاناة – الحنين إلى الوطن – المقاومة – المفاوضات – الأنظمة – الطواغيت – المقدسات – الحنّاء – المواويل – الشهداء – الأطفال:
فرحي تُعانقُه العصافيرُ الحزينة، ذكرياتُ النازحين
والنهرُ دمعُ غمامةْ
يا أيها الوطنُ العِمامةُ
ناحتْ على غُصني حَمامةْ
الاستغراق هنا ليس وصفة (أيديولوجية)، أو اندفاعاً مع التيار العام، بل هو حبّ حقيقي، يتملك الروح والجوارح، ويتحول إلى عقيدة شاملة فاعلة علوية.
قد يكون للتجربة الشخصية دور، وقد يكون للمعاناة دور، وقد يكون لبوار البضاعة الأخرى دور، لكن الدور الأول والأخير للحبيبة نفسها، لفلسطين الأرض والشعب والمقدسات والجمال.
هجعَ الليلُ قليلاً، وأنا تَلطمُني أوردتي، ودمائي المكدودةُ لم تهجَعْ
هجعَ القهرُ قليلاً، لكنْ! ما زلنا في اللجّةِ نَبكي فُرقتنا، نحشدُ طابورَ الحُزنِ القارصِ، ما زلنا نتقطّعْ
و(حَماسُ) الكلِمُ الطيّبُ في أزمتنا، وحماسُ الأمُّ المُتوضئة الآنَ لفجرِ تُهرَعْ!!
وهكذا يكون البعد الإسلامي في الديوان عفو الخاطر سمحاً، ليس تناصّاً بالألفاظ والعبارات والإشارات التاريخية،بل مع ذلك وقبله وبعده، تَصور شامل، تعبر عنه المواقف والأفكار والمعاني والصور والأخيلة، بقدر ما تعبر عنه الألفاظ وأسماء الأعلام والمواقع. في قصيدة (مقاطع مرهقة من مدينة تحتضر)، ينظر الشاعر من خلال ثلاثة أناشيد أو فقرات إلى مفردات القضية الفلسطينية كلها من منظار إسلامي: غضب وحزن لما في الواقع، ثم كشف لتناقضات هذا الواقع السوداء: (امرأة تزهو حاملة جبلاً من ذهب –صياد محترف في الرغبة يقنص فتيات الحي- كلب يورث أموال عشيقته الشقراء –قطّ حضريّ يمرح منتشياً بعد الوجبات الدسمة –أطفال ذُبحوا ذبح الشاة بكل هدوء –والعالم يرقص محتفلاً بحقوق الإنسان) ثم يأتيه احتجاج:
صوتٌ من بينِ السادة يأتي مُنتفخاً: إحساسُكَ هذا جَهمٌ حدَّ الشؤم، ومازالَ الكونُ بخير!
فلماذا أفسدتَ علينا بسوداوية أفكاركَ جوَّ مدينتنا الخضراء؟
فيردّ الشاعر بقوة:
هذراً قولوا ما شئتم
أتساءلُ مكتئباً أو مُبتسماً: لله الأول والآخر
هل قرُبتْ لحظاتُ الساعةْ؟
وأنت أيضاً تتساءل: أيّ ساعة قربت؟ قيام الساعة، أم قيام الثورة؟ وهي تورية صحيحة إسلامياً في الحالين. وهكذا تشع الألفاظ والعبارات وأسماء الأعلام والمواقع بذاتها أو بعلاقاتها، بمدلولاتها اللغوية والفكرية أو التاريخية، ثم بعلاقاتها في السياق الذي ترد فيه. تأمل معي توظيف آيتين من آخر سورة (العاديات) في وصف عملية فدائية:
لحظةً يرتدون مناسكهم والنذور
لحظةً يقطفون لأجيالها وردة من سرور
لحظةً يمتطون قواربهم للعبور
لحظةً و(يُبَعْثَرُ ما في القبور)
لحظةً و(يُحصَّلُ ما في الصدور)
ومثل ذلك توظيفه أسماء (السور) القرآنية:
للمؤمن الحقِّ صاحبِ الشمس، للقرنفل في (اللدّ)، للولدْ
لقليل من الآخرين، لهذي السُّحُبْ
سيُرتِّلُ أطفالُنا سورةَ (الواقِعةْ).
ناهيك بالحديث عن الشهادة: (للمساجد حين تعطّر أنداءها برحيق الشهادة، للذكر، للصلوات)، وعقيدة التوحيد: (ما انحنى للتخاذل. عاش يُردّد أدعية الأرض للربّ. يفلحها في المواسم تُخضب جيل المساجد) لذلك يهتف الشاعر بفخر واعتداد:
مسلمون ورغم الحصار
مسلمون ورغم الدمار
مسلمون ونرنو لسيرة أحمدْ
نشدو لِفاروقِنا.. نسمو فتنهمرُ الخيلُ خارطةً للبلاد.
وحين يضطر للهجاء السياسي، لا يخونه الفن، ولا يَندَ التصوّر الإسلامي، فيرى خصمه في اسم (فرعون) ورسمه:
تُسام الشعوبُ لأبقى. ويُجلَدُ كلُّ الدُعاةِ لأرضى. وما الظلمُ إلا جذوري. وهذا النفاقُ لساني. فمنْ لا يُباركْ هوايَ يُحَرَّقْ بِناري.
إذا استثنينا القصائد الست أو السبع المنظومة على عروض الخليل والقافية الموحدة، لتخلف مستواها الفني عن بقية قصائد الديوان (الحديثة)، فإننا نصادف عدداً من البنى والأشكال الفنية، التي أسهمت في نقل نبض الشاعر، والتحليق بصوره وأخيلته، المتوالدة، نخص بالذكر منها قانونين من قوانين الجمال، أحدهما (التكرار) وثانيهما (التغير).
للتكرار في هذا الديوان ألوان كثيرة، ومساحة كبيرة، تلفت النظر، لا تكاد تخلو منه قصيدة، تكرار حرف أو كلمة أو عبارة أو شطر. يقع التكرار في بدايات الشطور، كما يقع في نهاياتها وفي تضاعيفها أيضاً. وليس صحيحاً أن التكرار من منجزات الشعر الحديث، بل هو في القرآن بأجلى صوره، وفي الشعر الجاهلي كذلك.
قصيدة (نافذتان) ابتدأت شطورها المؤلفة من (58 سطراً) بحرف الجرَ: (للعقول.. للوجوه.. لافتضاح الدبابير... لهذا الشطط.. كُدِّسَ هذا العفن العربي على المائدة) إلا في موضعين أو ثلاثة، حيث يظهر الفعل متأخراً لتتعلق به حروف الجرّ لغةً ومعنىً ومبنىً، فحصل للشاعر تماسك شديد في بناء القصيدة من جهة، مع إلحاح أو توكيد للمعاني، وتراكم في الصور من جهة ثانية. فإذا كانت النافذة / القصيدة الأولى (28) سطراً تصور الشقاء في الواقع، والثانية (30) سطراً تصور البهجة فيه.. اكتمل البناء بالتقابل أو التضاد الفني المعبر.
ومن الحروف المكررة في بدايات الشطور.. حرف العطف (أم: الصفحة 58) وحرف النفي (لا: ص65)، ومن الظروف تكرار (دون: ص53)، ومن أسماء الاستفهام (كيف: 33) وكلمة (من: ص49)، ومن الأسماء الأخرى (وردة: ص27)، ومن الأفعال (عاد:60) و(أنتهي: ص52)..
من أغراض التكرار الفني توكيد المعنى أو الترنم الموسيقي أو التعبير عن حالة انفعالية، والشاعر الحناحنة يوظفه لهذه الأغراض كلها ولغيرها، ولعل مسحة الحزن التي غلبت على الديوان، هي العامل الأكبر الذي أنتج هذا الاحتفال بالتكرار، فضلاً عن ميل الشاعر إلى النبرة الخطابية في السرد والتوقيع الموسيقي، من غير إهمال للأبعاد الفنية الأخرى كالخيال والصور الكثيرة المتوالدة. في قصيدته (قصيدة جديدة لرمز قديم) يكرر الشطر/السطر: (على نعش هذا السلام.. سلام) مرتين بلفظه، ومرتين بشكل مقارب (سلام على نعش هذا الجنين!!) للترنم الحزين والنواح أولاً، وللتقسيم أو الختام ثانياً. وللغرضين نفسيهما استخدام تكرار الشطر/السطر في قصيدتي (اليمامة) و(الغزال)، لكن خاتمة (الغزال) كانت بقوله (فتجليت شهيداً) وهو غياب للغزال بشكل احتفالي مهيب.
أما قانون (التغير) الجمالي، فنصادفه في عدد من الأشكال بدءاً من (تغير) القافية أو تنوعها –وهو أحد مزايا الشعر الحديث وفواصل القرآن الكريم – وانتهاء بتقابل الصور والمعاني والأفكار أو المقاطع الشعرية. سبق أن أشرنا إلى التقابل في قصيدة (نافذتان)، حيث قام البناء على لوحتين اثنتين متضادتين متكاملتين في الوقت نفسه (والضدِّ يظهر حسنَه الضدُّ). اللوحة الأولى تصور الجانب الأسود المؤلم من الواقع الفلسطيني والعربي والدولي (لهذا الشطط.. كُدِّسَ هذا العفن العربي على المائدةْ)، واللوحة الثانية تصور الجانب الأبيض البهيج من الواقع الفلسطيني والعربي، ولا سيما المقاومة وأبطال الحجارة: (سيرتل أطفالنا سورة الواقعة). وبين كلمتي (المائدة) و (الواقعة) ما بينهما علاقات لغوية في المستوى الأول، واسمين لسورتين في القرآن الكريم في المستوى الثاني، وتقابل تضاد في سياقهما هنا في المستوى الثالث، وإيرادهما في خاتمة اللوحتين المتقابلين في المستوى الرابع، فتأمل.
أما القصيدة التي عنوانها (قصيدتان)، فهي تتألف أيضاًً من مقطعين متقابلين تقابل تكامل بلا تضاد. المقطع الأول بعنوان: (المئذنة)، والمقطع الثاني بعنوان: (الجبل)، ولعل الشاعر يعني به قبة المسجد التي تقابل المئذنة في الهندسة المعمارية، ولعل المقصود (قبة مسجد الصخرة) بالذات. فإذا كانت المئذنة رمز الصعود والسمو إلى السماء عمودياً: (تلك مئذنة شامخة. تلك مئذنة من سحاب. جنة ترتوي من عطور الكتاب)، فإن الجبل/ القبة رمز للرسوخ والامتداد الأفقي: (يا عرين الهداية هذا شجاي. فكن صخرتي ورؤاي. لأطلق عصفورة لحقول الدماء).
بمناسبة الحديث عن قانون (التغير) من خلال التقابل أو التكامل.. نشير إلى دلالات العنوانات، التي تستحق وقفة خاصة، بدءاً من عنوان الديوان (ياسمين الذاكرة)، نخص بالذكر تلك العنوانات الطويلة أو المبنية على التقابل، مثل: (قصيدة جديدة لرمز قديم)، (أُسدنا وسمية)، (مقاطع مرهقة من مدينة تُحتضر)، وهذه القصيدة الأخيرة، قام بناؤها كله على حشد من الصور المتناقضة أو المتقابلة أو المتكاملة في الوقت نفسه، مثل: (عائلة تتمزق تحت سياط الرعب. امرأة تزهو حاملة جبلاً من ذهب)، أطفال ذبحوا ذبح الشاة بكل هدوء. والعالم يرقص محتفلاً بحقوق الإنسان). في القصيدة نفسها يصل التقابل إلى بنية الصورة الجزئية الواحدة: (حيوان يركب رجلاً)، (أتساءل مكتئباً أو مبتسماً)، والأمر – كما نقدر- ليس تلاعباً بالألفاظ أو بحثاً عن الغرابة والإدهاش، بل هي تناقضات الواقع المرير، وانعكاسها على مرآة الشاعر المرهفة.
وأخيراً لا تفوتنا الإشادة بالمقدمة التي كتبها الدكتور محمد صالح الشنطي، وانتهى فيها إلى الكثير مما ذهبنا إليه.
في عهد الاستقرار أو التوسع والفتوحات، كعهد بني أمية كان من الطبيعي أن يظهر شعراء ينصرفون للغزل وحده أو (لمدح النساء)، مثل عمر بن أبي ربيـعة وجميل بثينة، أما حين نُتخطف في أوطاننا وتغتصب مقدساتنا، ويُغرز نصلّ في مهوى أفئدتنا (فلسطين)، فإن الأمر مختلف، واللحن أيضاً بالتالي سيختلف. وهكذا ظهر جيل، بل أجيال من شعراء القضية الفلسطينية.
ديوان (ياسمين الذاكرة) للصديق محمد شلال الحناحنة، أحد الأصوات الشعرية المستغرقة بالقضية، من بابها إلى محرابها (في أقل من مئة صفحة، وأكثر من خمس وعشرين قصيدة أو نشيداً): عن الغربة – المخيمات – المعاناة – الحنين إلى الوطن – المقاومة – المفاوضات – الأنظمة – الطواغيت – المقدسات – الحنّاء – المواويل – الشهداء – الأطفال:
فرحي تُعانقُه العصافيرُ الحزينة، ذكرياتُ النازحين
والنهرُ دمعُ غمامةْ
يا أيها الوطنُ العِمامةُ
ناحتْ على غُصني حَمامةْ
الاستغراق هنا ليس وصفة (أيديولوجية)، أو اندفاعاً مع التيار العام، بل هو حبّ حقيقي، يتملك الروح والجوارح، ويتحول إلى عقيدة شاملة فاعلة علوية.
قد يكون للتجربة الشخصية دور، وقد يكون للمعاناة دور، وقد يكون لبوار البضاعة الأخرى دور، لكن الدور الأول والأخير للحبيبة نفسها، لفلسطين الأرض والشعب والمقدسات والجمال.
هجعَ الليلُ قليلاً، وأنا تَلطمُني أوردتي، ودمائي المكدودةُ لم تهجَعْ
هجعَ القهرُ قليلاً، لكنْ! ما زلنا في اللجّةِ نَبكي فُرقتنا، نحشدُ طابورَ الحُزنِ القارصِ، ما زلنا نتقطّعْ
و(حَماسُ) الكلِمُ الطيّبُ في أزمتنا، وحماسُ الأمُّ المُتوضئة الآنَ لفجرِ تُهرَعْ!!
وهكذا يكون البعد الإسلامي في الديوان عفو الخاطر سمحاً، ليس تناصّاً بالألفاظ والعبارات والإشارات التاريخية،بل مع ذلك وقبله وبعده، تَصور شامل، تعبر عنه المواقف والأفكار والمعاني والصور والأخيلة، بقدر ما تعبر عنه الألفاظ وأسماء الأعلام والمواقع. في قصيدة (مقاطع مرهقة من مدينة تحتضر)، ينظر الشاعر من خلال ثلاثة أناشيد أو فقرات إلى مفردات القضية الفلسطينية كلها من منظار إسلامي: غضب وحزن لما في الواقع، ثم كشف لتناقضات هذا الواقع السوداء: (امرأة تزهو حاملة جبلاً من ذهب –صياد محترف في الرغبة يقنص فتيات الحي- كلب يورث أموال عشيقته الشقراء –قطّ حضريّ يمرح منتشياً بعد الوجبات الدسمة –أطفال ذُبحوا ذبح الشاة بكل هدوء –والعالم يرقص محتفلاً بحقوق الإنسان) ثم يأتيه احتجاج:
صوتٌ من بينِ السادة يأتي مُنتفخاً: إحساسُكَ هذا جَهمٌ حدَّ الشؤم، ومازالَ الكونُ بخير!
فلماذا أفسدتَ علينا بسوداوية أفكاركَ جوَّ مدينتنا الخضراء؟
فيردّ الشاعر بقوة:
هذراً قولوا ما شئتم
أتساءلُ مكتئباً أو مُبتسماً: لله الأول والآخر
هل قرُبتْ لحظاتُ الساعةْ؟
وأنت أيضاً تتساءل: أيّ ساعة قربت؟ قيام الساعة، أم قيام الثورة؟ وهي تورية صحيحة إسلامياً في الحالين. وهكذا تشع الألفاظ والعبارات وأسماء الأعلام والمواقع بذاتها أو بعلاقاتها، بمدلولاتها اللغوية والفكرية أو التاريخية، ثم بعلاقاتها في السياق الذي ترد فيه. تأمل معي توظيف آيتين من آخر سورة (العاديات) في وصف عملية فدائية:
لحظةً يرتدون مناسكهم والنذور
لحظةً يقطفون لأجيالها وردة من سرور
لحظةً يمتطون قواربهم للعبور
لحظةً و(يُبَعْثَرُ ما في القبور)
لحظةً و(يُحصَّلُ ما في الصدور)
ومثل ذلك توظيفه أسماء (السور) القرآنية:
للمؤمن الحقِّ صاحبِ الشمس، للقرنفل في (اللدّ)، للولدْ
لقليل من الآخرين، لهذي السُّحُبْ
سيُرتِّلُ أطفالُنا سورةَ (الواقِعةْ).
ناهيك بالحديث عن الشهادة: (للمساجد حين تعطّر أنداءها برحيق الشهادة، للذكر، للصلوات)، وعقيدة التوحيد: (ما انحنى للتخاذل. عاش يُردّد أدعية الأرض للربّ. يفلحها في المواسم تُخضب جيل المساجد) لذلك يهتف الشاعر بفخر واعتداد:
مسلمون ورغم الحصار
مسلمون ورغم الدمار
مسلمون ونرنو لسيرة أحمدْ
نشدو لِفاروقِنا.. نسمو فتنهمرُ الخيلُ خارطةً للبلاد.
وحين يضطر للهجاء السياسي، لا يخونه الفن، ولا يَندَ التصوّر الإسلامي، فيرى خصمه في اسم (فرعون) ورسمه:
تُسام الشعوبُ لأبقى. ويُجلَدُ كلُّ الدُعاةِ لأرضى. وما الظلمُ إلا جذوري. وهذا النفاقُ لساني. فمنْ لا يُباركْ هوايَ يُحَرَّقْ بِناري.
إذا استثنينا القصائد الست أو السبع المنظومة على عروض الخليل والقافية الموحدة، لتخلف مستواها الفني عن بقية قصائد الديوان (الحديثة)، فإننا نصادف عدداً من البنى والأشكال الفنية، التي أسهمت في نقل نبض الشاعر، والتحليق بصوره وأخيلته، المتوالدة، نخص بالذكر منها قانونين من قوانين الجمال، أحدهما (التكرار) وثانيهما (التغير).
للتكرار في هذا الديوان ألوان كثيرة، ومساحة كبيرة، تلفت النظر، لا تكاد تخلو منه قصيدة، تكرار حرف أو كلمة أو عبارة أو شطر. يقع التكرار في بدايات الشطور، كما يقع في نهاياتها وفي تضاعيفها أيضاً. وليس صحيحاً أن التكرار من منجزات الشعر الحديث، بل هو في القرآن بأجلى صوره، وفي الشعر الجاهلي كذلك.
قصيدة (نافذتان) ابتدأت شطورها المؤلفة من (58 سطراً) بحرف الجرَ: (للعقول.. للوجوه.. لافتضاح الدبابير... لهذا الشطط.. كُدِّسَ هذا العفن العربي على المائدة) إلا في موضعين أو ثلاثة، حيث يظهر الفعل متأخراً لتتعلق به حروف الجرّ لغةً ومعنىً ومبنىً، فحصل للشاعر تماسك شديد في بناء القصيدة من جهة، مع إلحاح أو توكيد للمعاني، وتراكم في الصور من جهة ثانية. فإذا كانت النافذة / القصيدة الأولى (28) سطراً تصور الشقاء في الواقع، والثانية (30) سطراً تصور البهجة فيه.. اكتمل البناء بالتقابل أو التضاد الفني المعبر.
ومن الحروف المكررة في بدايات الشطور.. حرف العطف (أم: الصفحة 58) وحرف النفي (لا: ص65)، ومن الظروف تكرار (دون: ص53)، ومن أسماء الاستفهام (كيف: 33) وكلمة (من: ص49)، ومن الأسماء الأخرى (وردة: ص27)، ومن الأفعال (عاد:60) و(أنتهي: ص52)..
من أغراض التكرار الفني توكيد المعنى أو الترنم الموسيقي أو التعبير عن حالة انفعالية، والشاعر الحناحنة يوظفه لهذه الأغراض كلها ولغيرها، ولعل مسحة الحزن التي غلبت على الديوان، هي العامل الأكبر الذي أنتج هذا الاحتفال بالتكرار، فضلاً عن ميل الشاعر إلى النبرة الخطابية في السرد والتوقيع الموسيقي، من غير إهمال للأبعاد الفنية الأخرى كالخيال والصور الكثيرة المتوالدة. في قصيدته (قصيدة جديدة لرمز قديم) يكرر الشطر/السطر: (على نعش هذا السلام.. سلام) مرتين بلفظه، ومرتين بشكل مقارب (سلام على نعش هذا الجنين!!) للترنم الحزين والنواح أولاً، وللتقسيم أو الختام ثانياً. وللغرضين نفسيهما استخدام تكرار الشطر/السطر في قصيدتي (اليمامة) و(الغزال)، لكن خاتمة (الغزال) كانت بقوله (فتجليت شهيداً) وهو غياب للغزال بشكل احتفالي مهيب.
أما قانون (التغير) الجمالي، فنصادفه في عدد من الأشكال بدءاً من (تغير) القافية أو تنوعها –وهو أحد مزايا الشعر الحديث وفواصل القرآن الكريم – وانتهاء بتقابل الصور والمعاني والأفكار أو المقاطع الشعرية. سبق أن أشرنا إلى التقابل في قصيدة (نافذتان)، حيث قام البناء على لوحتين اثنتين متضادتين متكاملتين في الوقت نفسه (والضدِّ يظهر حسنَه الضدُّ). اللوحة الأولى تصور الجانب الأسود المؤلم من الواقع الفلسطيني والعربي والدولي (لهذا الشطط.. كُدِّسَ هذا العفن العربي على المائدةْ)، واللوحة الثانية تصور الجانب الأبيض البهيج من الواقع الفلسطيني والعربي، ولا سيما المقاومة وأبطال الحجارة: (سيرتل أطفالنا سورة الواقعة). وبين كلمتي (المائدة) و (الواقعة) ما بينهما علاقات لغوية في المستوى الأول، واسمين لسورتين في القرآن الكريم في المستوى الثاني، وتقابل تضاد في سياقهما هنا في المستوى الثالث، وإيرادهما في خاتمة اللوحتين المتقابلين في المستوى الرابع، فتأمل.
أما القصيدة التي عنوانها (قصيدتان)، فهي تتألف أيضاًً من مقطعين متقابلين تقابل تكامل بلا تضاد. المقطع الأول بعنوان: (المئذنة)، والمقطع الثاني بعنوان: (الجبل)، ولعل الشاعر يعني به قبة المسجد التي تقابل المئذنة في الهندسة المعمارية، ولعل المقصود (قبة مسجد الصخرة) بالذات. فإذا كانت المئذنة رمز الصعود والسمو إلى السماء عمودياً: (تلك مئذنة شامخة. تلك مئذنة من سحاب. جنة ترتوي من عطور الكتاب)، فإن الجبل/ القبة رمز للرسوخ والامتداد الأفقي: (يا عرين الهداية هذا شجاي. فكن صخرتي ورؤاي. لأطلق عصفورة لحقول الدماء).
بمناسبة الحديث عن قانون (التغير) من خلال التقابل أو التكامل.. نشير إلى دلالات العنوانات، التي تستحق وقفة خاصة، بدءاً من عنوان الديوان (ياسمين الذاكرة)، نخص بالذكر تلك العنوانات الطويلة أو المبنية على التقابل، مثل: (قصيدة جديدة لرمز قديم)، (أُسدنا وسمية)، (مقاطع مرهقة من مدينة تُحتضر)، وهذه القصيدة الأخيرة، قام بناؤها كله على حشد من الصور المتناقضة أو المتقابلة أو المتكاملة في الوقت نفسه، مثل: (عائلة تتمزق تحت سياط الرعب. امرأة تزهو حاملة جبلاً من ذهب)، أطفال ذبحوا ذبح الشاة بكل هدوء. والعالم يرقص محتفلاً بحقوق الإنسان). في القصيدة نفسها يصل التقابل إلى بنية الصورة الجزئية الواحدة: (حيوان يركب رجلاً)، (أتساءل مكتئباً أو مبتسماً)، والأمر – كما نقدر- ليس تلاعباً بالألفاظ أو بحثاً عن الغرابة والإدهاش، بل هي تناقضات الواقع المرير، وانعكاسها على مرآة الشاعر المرهفة.
وأخيراً لا تفوتنا الإشادة بالمقدمة التي كتبها الدكتور محمد صالح الشنطي، وانتهى فيها إلى الكثير مما ذهبنا إليه.