1 الدولة المغربية : الإستمرارية التاريخية و الخصوصيات الأربعاء مارس 17, 2010 10:12 am
admin
Admin
الدولة المغربية : الإستمرارية التاريخية و الخصوصيات
يشكل تحول البلد إلى دولة تقوت بنياتها على
مر القرون، وحافظت على استقلالها إلى حدود
بداية القرن العشرين –عن العثمانيين خاصة-
من أهم مميزات المغرب مقارنة مع باقي بلدان
المغرب العربي.
1 - من دولة الأدارسة إلى دولة الوطاسيين
رغم أن الإيبيريين شنوا هجماتهم على المغرب واحتلوا عدة ثغور مغربية على الساحلين المتوسطي والأطلسي، وبالتالي أضعفوا بشكل كبير دور الوساطة التجارية المغربية بين أوربا وإفريقيا جنوب الصحراء، فإن ذلك لم يؤثر على حضور مؤسسات الدولة. حيث ظلت الاستمرارية قائمة رغم الصعوبات الناتجة عن تغير الدول، كما لم تتوقف مقاومة المغاربة لتحرير الثغور، مما شكل أحد العوامل الأساسية في ظهور وتشكل الشعور الوطني .
يعود تشكيل نواة هذه الدولة على أساس الإسلام إلى الأدارسة الذين أسسوا مدينة فاس. فالإخباري ابن أبي زرع- صاحب روض القرطاس- قدم إشارات مهمة حول ظروف تأسيس أول دولة في المغرب. فالمولى إدريس فر في اتجاه المغرب بعد مقتل عائلته في موقعة فخ (786)مرفوقا بمولاه راشد. وعبر مصر وتلمسان حلَّ إدريس بطنجة ثم انتقل إلى وليلي حيث نزل عند ابن عبد الله الأَوْربي الذي رحب به وقبل دعوته ونصرة قضيته.ثم أخذ في دعوة القبائل الأمازيغية الأخرى لمساندة حركته الدينية والسياسية.
واهتمت الدول المتتالية بتوسيع مجالها الترابي ومركزة تسييرها. فأصبحت مراكش وفاس الجديد عواصم للإمبراطوريات، التي كانت تمتد شمالا على كل إفريقيا الشمالية إلى حدود طرابلس وقسم من شبه الجزيرة الإيبيرية، وجنوبا وصلت – في العهد السعدي- إلى جزء من إفريقيا جنوب الصحراء. وبالتالي، وبحكم موقعه على غرب البحر الأبيض المتوسط، كان المغرب يراقب قسما هاما من التجارة الصحراوية وطرق الذهب.
أصبح المغرب قوة جهوية من الدرجة الأولى بعد انتصار المرابطين على المسيحيين في معركة الزلاقة (1086) والفتوحات اللاحقة التي قام بها الموحدون في الأندلس. وتعود هذه النجاحات إلى قدراته العسكرية وخاصة البحرية، التي جعلت صلاح الدين الأيوبي يطلب الإستعانة بها خلال مواجهته للحروب الصليبية.
فهذه " الرواية " أبرزها بقوة المستشرق والمؤرخ ليفى بروفنصال ( Levi-Provençal ) عندما ذكر <<إن كلمتي المرابطين والموحدين فرضتا استعمالهما في لغات أوربا>> نظرا للانتصارات التي حققتها هاتان الدولتان في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وتعود هذه المكتسبات إلى شخصيات وازنة مثل يوسف بن تاشفين والمهدي بن تومرت وعبد المومن بن علي. وقد قدم ابن أبي زرع وصفا لشخصية يوسف فاعتبره حازما في تسيير شؤون الحكم وساهرا على مصالح رعاياه ومنشغلا بالجهاد. ثم أضاف أنه عرف ببساطة العيش في مختلف مظاهر حياته من ملبس ومأكل ومشرب ومقام. وقد لعبت زينب النفزانية دورا مهما في صعود وارتقاء زوجها يوسف بن تاشفين وكذلك في اختيار موضع مدينة مراكش.
محطات تاريخية خاصة بالمرابطين
السنوات وأهم الأحداث
1053 سيطرة المرابطين على سجلماسة
1069 السيطرة على فاس
1070 تأسيس مراكش
1086 معركة الزلاقة.
1106 وفاة يوسف بن تاشفين
1109 إحراق كتب الغزالي في قرطبة.
كما قدم ابن خلدون بدوره صورة لمسار مؤسس الدولة الموحدية محمد بن تومرت، حيث ذكر أنه ينتمي إلى أسرة فقيرة، تلقى دراسته الأولى بالمغرب في وسطه القروي. وفي نهاية القرن الحادي عشر انتقل إلى الشرق- بعد أن قضى فترة قصيرة بقرطبة- ليكمل تحصيله وتعميق معارفه في أهم المراكز العلمية هناك. تم عاد إلى قريته بتينمل عند عصبيته المصمودية، حيث أعلن الحرب على المرابطين. وبعد وفاته خلفه عبد المومن بن علي.
كرونولوجيا الموحدين
السنوات
أهم الأحداث
1125
1130
1145
1147
1156
1170
1174
1181
1187
1187
1195
1198
1212
1229
1269
1276
استقرار ابن تومرت في تينمل
فشل حصار الموحدين بمراكش.
سيطرة الموحدين على تلمسان.
سيطرة عبد المومن على مراكش.
السيطرة على مدينتي تونس والمهدية.
انتصار الموحدين في الأندلس (فالانسيا).
وباء الطاعون.
انتصار الموحدين على البحرية المسيحية (لشبونة).
ترحيل القبائل العربية من إفريقيا إلى الغرب.
استغاثة صلاح الدين الأيوبي.
انتصار الموحدين على المسيحيين في معركة (الأرك).
وفاة أبي يعقوب يوسف (المنصور).
هزيمة العقاب أمام المسيحيين في الأندلس.
التخلي عن مذهب المهدي.
سقوط مراكش في يد المرينيين.
السيطرة على تينمل ومقتل أواخر الموحدين
وكان سلاطين المغرب يقومون بالجهاد ويحاربون البدع، ويقيمون منجزات عمرانية – مثل المساجد الكبرى والمدارس- لضمان شرعية حكمهم. فإذا كان المرينيون لم يحققوا نجاحات مهمة ضد حروب الاسترداد أو يؤسسوا دولتهم على أساس إصلاحات دينية، فإنهم اهتموا في المقابل بتدشينات عمرانية كثيرة. كما أن المبادرة التي اتخذوها من أجل مؤسس مدينة فاس "إدريس الثاني" بجعل ضريحه مقام تبجيل واحترام، كانت بهدف التعويض عن عدم انتمائهم لآل البيت.
أهم المحطات في التاريخ المريني
1216: أول انتصار للمرينيين على الموحدين
1217: وفاة السلطان المريني عبد الحق
1245: إعلان المرينيين ولاءهم للحفصيين
1249: قمع قوي لحركة مضادة للمرينيين بفاس
1260: هجومات القشتاليين على مدينة سلا
1269: سيطرة المرينيين على مراكش
1275: انتصار المرينيين على المسيحيين في الأندلس
1276: بناء فاس الجديد
1299: بداية حصار تلمسان من المرينيين (تسع سنوات)
1340: هزيمة المرينيين بالأندلس (ريوطالادو)
1347: دخول السلطان المريني أبي الحسن إلى تونس
1357: فشل السلطان أبي عنان في الدخول إلى تلمسان
1375: شروع ابن خلدون في تحرير المقدمة
1415: احتلال البرتغال لمدينة سبتة
1453: احتلال الأتراك لمدينة القسطنطينية
1465: ثورة فاس وإعدام السلطان عبد الحق
1468: تخريب البرتغال لأنفا
1492: سقوط غرناطة
1497 احتلال مليلية من الإسبان
إن امتداد الدولة المغربية واستقرارها في إطارها الجغرافي الحالي قد توقف في القرن الخامس عشر. وهي فترة تميزت بتحولات كبيرة على الصعيد العالمي، تمثلت بالخصوص في تراجع الدور التجاري للبحر المتوسط وانتقال مركز ثقل التجارة الدولية إلى المحيط الأطلسي، ونجاحات حروب الاسترداد (Reconquista) في شبه الجزيرة الإيبيرية.
فوجد المغرب نفسه فعليا في موقع الدفاع منذ بداية القرن الخامس عشر، حيث لم يعد يتحكم في محاور التجارة الصحراوية، أو يقوم بدور الوساطة بين أوربا وإفريقيا السوداء في تجارة الذهب، لأن هذه المادة فقدت أهميتها بفعل تدفق المعادن النفيسة على أوربا من القارة الأمريكية.
من جهة أخرى، وبموازاة تهديدات العثمانيين المنطلقة من باشوية الجزائر على الحدود الشرقية، تعرض المغرب لهجمة استعمارية إسبانية وبرتغالية على سواحله المتوسطية والأطلسية. فتم احتلال سبتة سنة 1415 من البرتغال ومليلية سنة 1497 من الإسبان. وجدد الايبريون زحفهم مع بداية القرن السادس عشر على ثغور أخرى، مما أفقد المغرب منافذه البحرية فاضطر مؤقتا إلى عدم توجيه الاهتمام إلى البحر.
واتسمت أوضاع المغرب أواخر المرينيين وخلفائهم الوطاسيين بالتدهور والتجزئة، بحيث لم يعد نفوذ الدول يتجاوز القسم الشمالي. وظلت مناطق متعددة تشكل كيانات مستقلة لا تعترف بالسلطة الوطاسية. مثلا منطقة تطوان التي خضعت لآل المنظري.
في هذا السياق برزت شخصية السيدة الحرة في شفشاون نهاية القرن الخامس عشر. وكانت تنتمي إلى عائلة إدريسية والدها هو القائد علي بن راشد، تزوجت في تطوان من المنظري. وبعد وفاته أصبحت حاكمة للمدينة بين سنتي 1537 و1542. وبعد إقصائها عن الحكم تحولت إلى الأمور الدينية. وهي والدة ابن عسكر صاحب دوحة الناشر (توفيت بالقصر في 1562).
ولتجاوز عجز السلطة "المركزية" اتجه المغاربة نحو الحركة الصوفية والالتفاف حول الزوايا. فازداد نفوذها وكثفت نشاطها وفروعها بمختلف جهات البلاد حاملة راية الجهاد ضد المحتلين. فالطريقة الشاذلية – نسبة إلى مؤسسها أبي الحسن بن عبد الله الشاذلي - منحها الشيخ محمد بن سليمان الجزولي بالمغرب نفسا جديدا خلال القرن الخامس عشر، ووجهها نحو العمل على إصلاح الدين والدولة. حيث التفت قبائل سوس (جنوب المغرب) حول فروع الطريقة الشاذلية في أقا وتيدسي لطرد المحتلين المسيحيين من الثغور تحت راية الجهاد. إلا أن محدودية هذه المقاومة أمام الخطر البرتغالي أقنع المجاهدين والزوايا بضرورة إقامة كيان يستقطب القبائل ويوفر الموارد وينظم المقاومة. وفي هذا الإطار انطلقت الحركة السعدية على يد المولى محمد القائم بأمر الله في تأسيس دولة السعديين.
فساهمت هذه الظروف والإكراهات التي فرضت على المغاربة في الدفاع على بلادهم وعقيدتهم ضد غزاة جاؤوا بفكرة الحرب الصليبية- والتي كان من أهدافها المصرح بها تنصيرهم، ساهمت تلك الظروف في تشكل الشعور الوطني.
فالأشراف السعديون الذين استقطبوا التأييد استمدوا مشروعيتهم من الانتساب لآل البيت النبوي، ومن جهادهم لتحرير الثغور المحتلة. فتمكنوا من هزم البرتغال بقيادة دون سباستيان ( Don Sebastien) سنة 1578 في معركة وادي المخازن ( أو الملوك الثلاثة). ففقدت البرتغال سيادتها وسقطت تحت السيطرة الاسبانية.
هذا الانتصار دفع المؤرخ الفرنسي فيرناند بروديل ( Fern and Braudel ) إلى اعتبارها آخر حرب صليبية في البحر الأبيض المتوسط، بدل موقعة ليبانتي ( Lépante ) . وأن هذه المعركة أثبتت قوة المغرب مثلما منح افتداء الأسرى أموالا طائلة لخزينة الدولة.
2 - من قيام العلويين إلى بداية القرن التاسع عشر
أقام العلويون، على غرار السعديين ومن قبلهم الأدارسة، دولتهم على أساس شرعية الانتماء إلى البيت النبوي، والجهاد لتحرير المراكز التي مازالت محتلة سواء من الإسبان أو الإنجليز المستقرين بطنجة .
ويعتبر المولى الرشيد هو المؤسس الحقيقي لهذه الدولة. أما خلفه المولى إسماعيل (المتوفى في 1727) -والمعاصر للملك لويس 14 (Louis XV) - فقد نجح في بناء دولة قوية ومركزية.
أقام السلطان المولى إسماعيل مؤسسة عسكرية جديدة، شكلت دعامة حقيقية لسلطة الدولة الجديدة . حيث كون جيشا نظاميا عرف بجيش عبيد البخاري نسبة إلى كتاب صحيح البخاري الذي كان أفراده يؤدون عليه يمين الولاء للسلطان ( بلغ تعداد هذا الجيش حوالي 150.000 جندي حسب بعض التقديرات ). ونظرا لإدراكه الأخطار التي كانت تحدق بتجارة القوافل أحكم مراقبة الطرق التجارية الداخلية الرابطة بين الصحراء وساحل البحر المتوسط عبر مراكش. ولعبت القصبات دورا هاما في حمايتها وتوفير حاجيات القوافل.
فالناصري- صاحب الاستقصا -وضح بخصوص جيش عبيد البخاري مايلي :"أمر السلطان أولئك العبيد أن يأتوه بأبنائهم وبناتهم من عشر سنين فما فوق. فلما قدموا عليه فرق البنات على عريفات داره. كل طائفة في قصر للتربية والتأديب. وفرق الأولاد على البنائين والنجارين وسائر أهل الحرف للعمل والخدمة. فإذا أتموا سنة نقلهم إلى سوق البغال والحاملة للآجر والزليج والقرمود. فإذا أكملوا سنة نقلهم إلى المرتبة الأولى في الجندية... فإذا أكملوا سنة دفع لهم الخيل يركبوها أعراء بلا سروج... فإذا أكملوا سنة بعد ذلك صاروا في عداد الجند المقاتلة، فيخرج لهم السلطان البنات اللاتي قدمن معهم ويزوج كل واحد من الأولاد إحدى البنات ويعطي الرجل عشرة مثاقيل مهر الزوجية. ويعطي المرأة خمسة مثاقيل شورتها."
وبجانب الضرائب التي يقدمها المغاربة، حول المولى إسماعيل معظم موارد الجهاد البحري لبيت المال. وقد ظلت عمليات الجهاد البحري في صلب المشاكل المغربية الأوربية. وكان يقوم بها بالخصوص الموريسكيون المطرودون من شبه الجزيرة الإيبرية سنة 1609 والذين استقروا في الرباط وسلا وتطوان.
في أعقاب وفاة السلطان المولى إسماعيل عرف المغرب فترة قاربت نصف قرن من الاضطرابات والفوضى. ولم تستقر الأوضاع إلا في عهد سيدي محمد بن عبد الله (توفى سنة 1790)، الذي اعتمد على سياسة الانفتاح التجاري مع أوربا لتوفير الموارد لبيت المال من مداخيل الجمارك دون الرفع من الضغط الجبائي على السكان. وارتبطت هذه السياسة كذلك بفتح الموانيء الأطلسية على التجارة الخارجية، حيث بادر السلطان إلى ترميم وبناء الموانيء (مثل ميناء الصويرة سنة 1764) لتركيز النشاط التجاري به.. كما عقد عدة اتفاقيات للصداقة والتجارة والملاحة مع مجموعة من الدول الأوروبية (بريطانيا العظمى في 1760 و1765 والسويد في سنة 1763 وفرنسا في معاهدة مراكش 1767 وإسبانيا في 1767 والدانمارك سنة 1767) .ورافق الانفتاح التجاري للمغرب انفتاح سياسي ودبلوماسي على العالم، حيث وقَّع في سنة 1786 معاهدة سلم وصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. فكان المغرب بذلك أول دولة تعترف باستقلال الجمهورية الأمريكية الفتية.
سمحت سياسة الانفتاح بتطوير المبادلات التجارية الخارجية خاصة مع اسبانيا، لكنها عموما لم تنعش الاقتصاد الوطني كثيرا. وتعود أسباب ذلك إلى ضعف التقنيات المستعملة في الزراعة والحرف والإكراهات المناخية الممثلة في توالي سنوات الجفاف، ونظام الاحتكار السلطاني للمواد الأكثر استهلاكا سواء على مستوى الواردات أو الصادرات.
اهتم السلطان سيدي محمد بن عبد الله بتحرير الثغور التي ما زالت محتلة من الإسبان والبرتغال. لكن لم يحالفه النجاح في استرجاع مليلية على عكس حال الجديدة (1768).
وقد تميز هذا السلطان بوعي كبير بتطور أوربا وإلمام بجوانب من حضارتها. وكانت له صداقات مع بعض القناصل الأوربيين وخاصة قنصل الدانمارك ج هوست ( G. Host ) . ففي كتابه الذي خصصه هذا الأخير لفترة إقامته في ضيافة السلطان، أشار إلى تفتح سيدي محمد وسماحه بحضور زوجاته الثلاث خلال الاستقبال في 20 يوينو 1778.
هذا و قد تم التراجع عن سياسة الانفتاح في عهد السلطان المولى سليمان (1792-1820)، بسبب آثارها السلبية المتمثلة في ندرة المواد الاستهلاكية في الأسواق المغربية، وخاصة في فترات الجفاف. لكن في عهد خلفه مولاي عبد الرحمان بن هشام (1820-1859) تمت العودة إلى سياسة الانفتاح لتأثره بتجربة محمد علي في مصر، حيث عقد عدة معاهدات مع مجموعة من الدول الأجنبية .
3 - ما هو مفهوم المخزن في أواسط القرن التاسع عشر؟
استمرت الدولة المغربية على الصورة التي نشأت عليها خلال العصور الوسطى، وجمدت عليها إلى انتصاف القرن 19. فأظهرت التحولات التي طرأت على الساحة الدولية بعد الثورة الصناعية أن العديد من مظاهر "المخزن" المغربي قد تخلفت عن ركب التاريخ، وأصبحت في عداد مفارقاته. وتأكد هذا بفعل ضغطة الدول الأوربية على المغرب ليفتح أسواقه في وجه موادها المصنعة، بل وفي سعيها إلى إخضاعه واستعماره.
وتبرز هذه المفارقات التاريخية بالخصوص في مسألة حفاظ السلاطين على التنقل الدائم – مثلا حركات المولى الحسن استغرقت تقريبا ربع فترة حكمه- وذلك في مرحلة تميزت بتحولات بنيوية بالمغرب، وتزايد الإدارات في مختلف دواليب الدولة، "وتداعيات " العلاقات مع أوروبا ( ممثلة في أزمات وشكايات ومفاوضات وشراء الأسلحة)، وإكراهات أخرى نزلت بثقلها لتكرس مفهوم المركزية والانتقال من حالة الترحل إلى حالة الإقامة مع تنسيق أصبح ضروريا " لتدبير " الشأن العام.
فالتنظيم العسكري ووضع الحدود بين الجندي المحترف والمدني كان يشكل بدوره غموضا أثار مفارقة تاريخية أخرى. وهكذا، لاحظ مولاي عبد الرحمان بخصوص عبيد البخاري، العنصر الأساسي في الجيش أنهم تهاونوا وفقدوا الاندفاع الذي تميزوا به في السابق، عندما كانوا يتفوقون كما وكيفا على كل الفرق العسكرية الأخرى.
فهؤلاء " الانكشارية" كانوا في السابق ينقسمون إلى فئات تسمى: الرحى.يقيمون بنوالات حول أهم القصور الملكية، ويتوزعون على طول الطرق السلطانية أو يتمركزون في بعض قصبات المناطق الساحلية. فأصبحوا فيما بعد لايمثلون سوى قوة متخلفة. لكن رغم تراجعهم ظلوا يزودون القصور الملكية بأهم العناصر، ويقدمون شكلا من الفرق السلطانية ( garde prétorienne ) التي فرضت قيمتها الحربية على الأجانب. لهذا كان السلطان يشجعهم، نظرا للتقدير الذي يوليه لهم عبر ترقيات تكون أحيانا سريعة داخل التراتبية السياسية والعسكرية والإدارية. أما في البوادي فقد كانت تتجمع حول خلايا العبيد فرق عسكرية أخرى كالكيش وقبائل أخرى المسماة بالنايبة.
فقبائل الكيش لم تكن تشكل فقط جيش احتياط، يعبأ في حالة ظهور أخطار داخلية أو خارجية. بل كانوا يقدمون بدورهم، وبشكل دائم جزءا من العناصر العاملة في القصور السلطانية ولحراسة السلطان وعمالا وقيادا وضباط ارتباط ومخازنية ..إلخ، مقابل امتيازات عقارية وجبائية.
بجانب هذه الامتيازات، كانوا يستفيدون من علاقات "الخؤولة" مع السلاطين. ويتم التعبيرعن أعيانهم في عرف المخزن " بأخوالنا"، رغم بطلان " روابط القرابة" هذه، واستمرارها في شكل صوري لم تتوقف بعض القبائل ( مثل شراكة أو الاوداية) عن اختلاق مختلف المشاكل للمخزن. وبغض النظر عن عوامل أخرى تدفعهم إلى إعلان عصيانهم، لا يمكن استبعاد العلاقة بين فك الارتباط " لروابط القرابة" مع السلطان واختفاء مختلف أشكال الامتيازات كسبب في قيام الاوداية بالتمرد. لدرجة جعلت الوزير ابن ادريس يعتبرهم "داء عضالا"، مما دفع بمولاي عبد الرحمان إلى القضاء عليهم عندما سحب منهم صفة الكيش. وبسبب هذه الإكراهات والتنافس الذي كان يطبع علاقاتهم فيما بينهم، بهدف المحافظة على مكانتهم لدى السلطان أو توطيدها، استمرت قبائل الكيش والعبيد في تشكيل العمود الفقري للنظام العسكري المخزني. وظلوا كلهم يكونون مع قبائل أخرى عند الضرورة فرقا عسكرية، يتم تكليفهم بتجهيزها بالأسلحة والخيل وتوزيع المؤن عليها طيلة فترة الحملات العسكرية.
ولم يكن التوفيق بين هذه القوات سهلا، خاصة عندما يتم تجميعهم للقيام بحركة (بهدف تحصيل الضرائب المتأخرة والقضاء على الثورات، والتحكيم في النزاعات بين القبائل والفخذات، وتحديد مجالات التسيير بالنسبة للقواد وتأكيد مغربية المناطق الخارجة عن السلطة المركزية).