1 إدريس الشرايبي الثلاثاء مايو 18, 2010 5:12 am
admin
Admin
في مديح الأب العالي
الرباط: جلال الحكماوي
رحل عنا أبو الأدب المغربي الحديث عن سن تناهز الواحدة والثمانين. خرج هذا الكاتب من رحم بلاد كانت ما تزال تحت نير الاستعمار، متمردا، قويا، كريح صرصر عاتية أتت على الأخضر واليابس في غابة الأفكار الجاهزة التي كانت تمور في المجتمع التقليدي المغربي آنذاك. نزلت به السماء كالقدر على قراء لم يجففوا بعد عيونهم من دموع زمن كانت فيه العربية لغة المقاومة الوطنية والفرنسية لغة الاستلاب والخونة. تقسيم مانوي للعالم سهل الخوض في منطق الخير والشر. تقسيم هدهد ولادة عسيرة للأدب المغربي الحديث. من أين أتى وكيف ظهر بيننا هذا العملاق الذي أدخل الأدب المغربي إلى الحداثة من بابها الواسع؟
رأى إدريس الشرايبي النور في مدينة الجديدة، عاصمة دكالة سنة 1926 وسط أسرة برجوازية من فاس. تابع دراسته في ثانوية «ليوطي» بالدارالبيضاء التابعة للبعثة الفرنسية، معقل أبناء الفرنسيين والأعيان المغاربة. حصل على الباكالوريا العلمية سنة 1945 بامتياز، ورحل إلى باريس لتحقيق حلم والده ليصير مهندسا في مجال الكيمياء. حصل على الدبلوم السحري سنة 1950 وطوّح به في الهواء ليبدأ رحلة الألف ميل في جحيم الكتابة. ماذا دار في رأس هذا الشاب الأنيق، الذكي والغني؟ وكيف قايض مصيرا ذهبيا في بيت الأعيان ليركب أمواج مغامرة لم يخرج منها إلا حرا بهيا كنسر المطلق، منذ بضعة أيام؟ إنه «نداء الجذور» محرك النوابغ والمجانين. جذور مهرها التمرد الحقيقي على أقنعة مجتمعات عربية سبت نساءها وقهرت شبابها وشردت قبائل طالعة من تراب الأرض الأسود لحساب أعيان تحميهم جبال الدراهم البيضاء من سحنات البؤس السوداء. لم يقبل إدريس الشرايبي أبدا سيف القمع الأبوي الذي كان مسلطا على رقبة أمه ورقبته هو ورقاب شعوب بأكملها باسم الدين والتقاليد واحترام الأسلاف. قضى الكاتب الشاب ست سنوات للتخلص من هذا الصراخ الذي ملأ وعيه الشقي رافضا أموال والده الغاضب من تغييره لمسار تاريخ القبيلة إلى أن قطع عنه مورد الرزق. فاشتغل في كل الحرف الحقيرة من حارس ليلي إلى بائع متجول مرورا بمعلم للغة العربية أو صباغ، ليكبر في عين نفسه. بعد هذا الكر والفر مع جسد الكاتب الآخر تمخض الجبل، فولد جبلا آخر زلزل مغرب ما قبل الاستقلال بكتاب غير طريق الأدب في المغرب يحمل عنوان: «الماضي البسيط».
صفّت هذه الرواية الصادرة سنة 1954 الحساب مع المجتمع المغربي التقليدي. لوت عنق التقاليد البائدة والسلطة الأبوية الاعتباطية والتزمت بلغة فرنسية جديدة قلبت الاستعمار رأسا على عقب. لكن الوقت لم يكن مناسبا لهذا الزلزال غير المنتظر. كان المغرب في قمة مقاومته لنيل الاستقلال والحركة الوطنية اعتبرت أن الكتاب لا محل له من الإعراب في تلك المرحلة. أو بعبارة أخرى ضربة خائنة في الظهر. هنا يدخل مكر التاريخ، إذ تحتفي الصحافة اليمينية المناوئة لتحرر المغرب بالرواية لغرض في نفسها وتحاربه الصحافة الوطنية المغربية. فخ مزدوج فغر فاه ليبتلع باكورة الشاب المتمرد. لم يحتمل إدريس الشرايبي ظلم ذوي القربي واضطر تحت ضغوطات رسمية أن يسحب اعترافه بـ«الماضي البسيط». غير أن هذا المعمعان السياسي الملتبس لم يمنع العارفين بالاعتراف الغامز بولادة كاتب كبير. توالت الروايات وكبر الشاب المتمرد ليصير رجلا يحمل نار الرؤيا الأبدية في قلبه. كان يكتب بمطرقة حقيقية تهشم رأس كل المواضعات التي تقف في وجه شلال الحياة العربية. كان يحلم بعالم خفيف، كأحلام يقظة، يحمله على كتفيه ويطير به بين ضفتي المتوسط. طائر رقاص بين العقل والحداثة؛ بين التمرد والجنون، بين السماء والأرض إلى أن صار كاتبا أبدع لغة فرنسية مغايرة. لغة لا تهادن، تكسر التابوهات وخزف الحيل الإثنية وأوهام المركزية الأوروبية، وتملق كتاب الفرنسية العبيد متخصصي الاقتيات على فتات موائد ثقافة لم تطلب منهم أن يكونوا خدما، بل أسيادا مثل أسيادهم، بما أن اللغة «غنيمة حرب»، كما قال أحد كتاب مستعمرات فرنسا السابقة. كبر الكاتب وتفرعت شجرة كتابته المفتوحة على الآدمية. بعد قنبلة «الماضي البسيط»، ألف «التيوس» سنة 1966 حيث حلل مشاكل الهجرة المغاربية بفرنسا بمبضع طبيب جراح لا تنقصه الجسارة أو الدقة العلمية. فإذا صارت الكتابة عن الهجرة اليوم موضة، فقد خرجت من أنامله التي لم تكن تفارقها السيجارة. وتلت الهجرة، المصالحة مع الأب في روايته «الإرث المفتوح» بعد أن عاد لدفن والده الحاج الفاطمي الشرايبي الذي لم يمنعه غضب الكتاب/الزلزال من وده والوفاء لصلبه. ثم عاد إلى الغرب في رواية انكمش فيها على نفسه «سيأتي صديق لرؤيتك» سابرا العلاقة الزوجية من زاوية التحليل النفسي الفرداني. وكانت هذه الرواية الأولى والأخيرة التي ابتعد فيها الكاتب عن جذوره المغربية، ليعود بعدها متوهجا بنداء المغرب الأقصى حضارة وأشجارا وذاكرة لا تلين: تشريح الجسد المغربي. «أم الربيع»، «موت في كندا» حيث فكك العقلية التقليدية ليحرر نساءه من قضبان ثقافة لا تعترف بهن سوى كزوجات أو خانعات في عتمة البيوت الأبوية العتيقة. هذا السفر الجذري في ذاكرة لم تنهكها 24 سنة من المنفى الاختياري لم يكتف فقط بصرامة المهندس الكيميائي، صاحب الكتاب/الزلزال المتجهم، الذي قذف بدبلوم الحياة الراقية إلى المجهول، بل تحصن بسخرية لاذعة وضحك على ذقون العادات والسلوكات الميتة في رواياته وسيره اللاحقة. وهكذا ابتدع شخصية المفتش علي الذي يجوب العالم لحل قضاياه المعقدة والمضحكة بأسلوب مرح وساخر يفتح النفس ويشرح الصدور. إدريس الشرايبي المرح هي الصورة التي ترسخت عنه عند قرائه، إذ لم يبخل عليهم بأسراره الصغيرة والكبيرة في سيره «سمعت، قرأت ورأيت»، «والعالم الذي بجواري»... عندما نتحدث اليوم عن إدريس الشرايبي ننسى أنه توأم للكاتب الروسي غوغول في امتلاكهما معا لنفس المعطف الذي خرجت منه الأجيال اللاحقة. فبدون صاحب «الماضي البسيط» لم يكن ممكنا أن نقرأ للطاهر بن جلون، عبد الكبير الخطيبي، عبد الحق سرحان، محمد لفتح، محمد حمودان، إدريس جايدان أو عبد الله الطايع. أب لم تكن تهمه هذه الذرية الأدبية بما أنه ظل متمردا على الجاهز في الأفكار والبشر والأحلام. هذا الموقف يكشف لنا عن الوجه الآخر لهذه الذرية الضائعة في عالم بلا خرائط. فإذا تجاوز الجيل الجديد إشكالية الكتابة باللغة الفرنسية، باعتبارها اختيارا وجوديا، فإنه عاجز إلى يومنا هذا عن الوصول إلى مدينة الكتابة المغايرة التي شيدها إدريس الشرايبي وجيل الرواد الذي جاء بعده. لسنا أمام حنين إلى الماضي، بل أمام جدار لغة لم تعد تغذيها حروب التمرد الصغيرة والكبيرة في الجسد والحياة والرموز. نعم. إننا أمام لغة تبحث عن مريدين بفضة المنح والمساعدات التي لن تخرجها من غرف الإنعاش المركز التي اعتصمت بها في مستعمراتها السابقة. إذ نادرا ما نضع اليد على كتاب مسكونين بالحقيقة؛ كتاب يعيدون سلاح الفرنسية إلى نحرها، كما فعل إدريس شرايبي أو كاتب ياسين أو محمد خير الدين، ليعمدوا حريتهم بدم لغات جديدة تطلع من أرض الاختلاف المتوحشة.
كاتب الزلزال لم يترك أبدا المغرب. لذلك لما اشتد به المرض أصر على إعادته لرحم الأرض التي بعثته سفيرا إلى العالم ليدفن بها. قال المرحوم لمجلة «أنفاس» في أيام عزها النضالي ضد الاستعمار الفرنسي: «لقد لزمتني عشر سنوات لأذهب إلى أقصى تمردي. أنا،أذهب دائما إلى نهاية المطاف، إذ لا أتنازل أبدا عما أومن به». تمرد الكاتب عموما ليس فرقعات نزين بها بعض المحافل الرسمية، إنه نار متقدة دوما في أعماق من وصل إلى سرّ كرامة الإنسان السحيقة. عاش متمردا ومات وفيا لتلك المغامرة الكبرى التي جعلت منه فاتحا لبلدان وجغرافيات لم يصل إليها أصحاب اللغة الفرنسية عينهم. نأتي من التراب ونعود إليه. بيد أن الشرايبي ترك إرثا حرا من كل الولاءات لا يعود إلى تراب النسيان، بل يبقى حيا في قلوب مجتمعات تتحرك في اتجاه أفق مشع كالشمس. في المغرب، احتفى القراء دائما بابن الشمس هذا، فكتب الرجل تأتي على رأس مبيعات الروايات المكتوبة بالفرنسية في المغرب. وهذا يعني أن التكريس الرسمي إذا لم يأت في يوم من الأيام ولاسيما في حياة هؤلاء الكتاب الكبار، فإنه يبقى في حالة شرود بالنسبة لهدير التاريخ الذي لا يأكل أبناءه الحقيقيين. إدريس الشرايبي كاملا بالعربية، مثلا. محمد خير الدين؟ يجوز لنا طبعا الحلم في حضرة كاتب خاصم دائما الأطباق البروتوكولية التي يلحسها الجميع، لأن طعامه كان يأتي دائما من أرض بعيدة تسمى: التمرد على الأعراف التي أكل ونام عليها الزمن. مات إدريس الشرايبي. عاش إدريس الشرايبي... قال العراف وصدق.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الرباط: جلال الحكماوي
رحل عنا أبو الأدب المغربي الحديث عن سن تناهز الواحدة والثمانين. خرج هذا الكاتب من رحم بلاد كانت ما تزال تحت نير الاستعمار، متمردا، قويا، كريح صرصر عاتية أتت على الأخضر واليابس في غابة الأفكار الجاهزة التي كانت تمور في المجتمع التقليدي المغربي آنذاك. نزلت به السماء كالقدر على قراء لم يجففوا بعد عيونهم من دموع زمن كانت فيه العربية لغة المقاومة الوطنية والفرنسية لغة الاستلاب والخونة. تقسيم مانوي للعالم سهل الخوض في منطق الخير والشر. تقسيم هدهد ولادة عسيرة للأدب المغربي الحديث. من أين أتى وكيف ظهر بيننا هذا العملاق الذي أدخل الأدب المغربي إلى الحداثة من بابها الواسع؟
رأى إدريس الشرايبي النور في مدينة الجديدة، عاصمة دكالة سنة 1926 وسط أسرة برجوازية من فاس. تابع دراسته في ثانوية «ليوطي» بالدارالبيضاء التابعة للبعثة الفرنسية، معقل أبناء الفرنسيين والأعيان المغاربة. حصل على الباكالوريا العلمية سنة 1945 بامتياز، ورحل إلى باريس لتحقيق حلم والده ليصير مهندسا في مجال الكيمياء. حصل على الدبلوم السحري سنة 1950 وطوّح به في الهواء ليبدأ رحلة الألف ميل في جحيم الكتابة. ماذا دار في رأس هذا الشاب الأنيق، الذكي والغني؟ وكيف قايض مصيرا ذهبيا في بيت الأعيان ليركب أمواج مغامرة لم يخرج منها إلا حرا بهيا كنسر المطلق، منذ بضعة أيام؟ إنه «نداء الجذور» محرك النوابغ والمجانين. جذور مهرها التمرد الحقيقي على أقنعة مجتمعات عربية سبت نساءها وقهرت شبابها وشردت قبائل طالعة من تراب الأرض الأسود لحساب أعيان تحميهم جبال الدراهم البيضاء من سحنات البؤس السوداء. لم يقبل إدريس الشرايبي أبدا سيف القمع الأبوي الذي كان مسلطا على رقبة أمه ورقبته هو ورقاب شعوب بأكملها باسم الدين والتقاليد واحترام الأسلاف. قضى الكاتب الشاب ست سنوات للتخلص من هذا الصراخ الذي ملأ وعيه الشقي رافضا أموال والده الغاضب من تغييره لمسار تاريخ القبيلة إلى أن قطع عنه مورد الرزق. فاشتغل في كل الحرف الحقيرة من حارس ليلي إلى بائع متجول مرورا بمعلم للغة العربية أو صباغ، ليكبر في عين نفسه. بعد هذا الكر والفر مع جسد الكاتب الآخر تمخض الجبل، فولد جبلا آخر زلزل مغرب ما قبل الاستقلال بكتاب غير طريق الأدب في المغرب يحمل عنوان: «الماضي البسيط».
صفّت هذه الرواية الصادرة سنة 1954 الحساب مع المجتمع المغربي التقليدي. لوت عنق التقاليد البائدة والسلطة الأبوية الاعتباطية والتزمت بلغة فرنسية جديدة قلبت الاستعمار رأسا على عقب. لكن الوقت لم يكن مناسبا لهذا الزلزال غير المنتظر. كان المغرب في قمة مقاومته لنيل الاستقلال والحركة الوطنية اعتبرت أن الكتاب لا محل له من الإعراب في تلك المرحلة. أو بعبارة أخرى ضربة خائنة في الظهر. هنا يدخل مكر التاريخ، إذ تحتفي الصحافة اليمينية المناوئة لتحرر المغرب بالرواية لغرض في نفسها وتحاربه الصحافة الوطنية المغربية. فخ مزدوج فغر فاه ليبتلع باكورة الشاب المتمرد. لم يحتمل إدريس الشرايبي ظلم ذوي القربي واضطر تحت ضغوطات رسمية أن يسحب اعترافه بـ«الماضي البسيط». غير أن هذا المعمعان السياسي الملتبس لم يمنع العارفين بالاعتراف الغامز بولادة كاتب كبير. توالت الروايات وكبر الشاب المتمرد ليصير رجلا يحمل نار الرؤيا الأبدية في قلبه. كان يكتب بمطرقة حقيقية تهشم رأس كل المواضعات التي تقف في وجه شلال الحياة العربية. كان يحلم بعالم خفيف، كأحلام يقظة، يحمله على كتفيه ويطير به بين ضفتي المتوسط. طائر رقاص بين العقل والحداثة؛ بين التمرد والجنون، بين السماء والأرض إلى أن صار كاتبا أبدع لغة فرنسية مغايرة. لغة لا تهادن، تكسر التابوهات وخزف الحيل الإثنية وأوهام المركزية الأوروبية، وتملق كتاب الفرنسية العبيد متخصصي الاقتيات على فتات موائد ثقافة لم تطلب منهم أن يكونوا خدما، بل أسيادا مثل أسيادهم، بما أن اللغة «غنيمة حرب»، كما قال أحد كتاب مستعمرات فرنسا السابقة. كبر الكاتب وتفرعت شجرة كتابته المفتوحة على الآدمية. بعد قنبلة «الماضي البسيط»، ألف «التيوس» سنة 1966 حيث حلل مشاكل الهجرة المغاربية بفرنسا بمبضع طبيب جراح لا تنقصه الجسارة أو الدقة العلمية. فإذا صارت الكتابة عن الهجرة اليوم موضة، فقد خرجت من أنامله التي لم تكن تفارقها السيجارة. وتلت الهجرة، المصالحة مع الأب في روايته «الإرث المفتوح» بعد أن عاد لدفن والده الحاج الفاطمي الشرايبي الذي لم يمنعه غضب الكتاب/الزلزال من وده والوفاء لصلبه. ثم عاد إلى الغرب في رواية انكمش فيها على نفسه «سيأتي صديق لرؤيتك» سابرا العلاقة الزوجية من زاوية التحليل النفسي الفرداني. وكانت هذه الرواية الأولى والأخيرة التي ابتعد فيها الكاتب عن جذوره المغربية، ليعود بعدها متوهجا بنداء المغرب الأقصى حضارة وأشجارا وذاكرة لا تلين: تشريح الجسد المغربي. «أم الربيع»، «موت في كندا» حيث فكك العقلية التقليدية ليحرر نساءه من قضبان ثقافة لا تعترف بهن سوى كزوجات أو خانعات في عتمة البيوت الأبوية العتيقة. هذا السفر الجذري في ذاكرة لم تنهكها 24 سنة من المنفى الاختياري لم يكتف فقط بصرامة المهندس الكيميائي، صاحب الكتاب/الزلزال المتجهم، الذي قذف بدبلوم الحياة الراقية إلى المجهول، بل تحصن بسخرية لاذعة وضحك على ذقون العادات والسلوكات الميتة في رواياته وسيره اللاحقة. وهكذا ابتدع شخصية المفتش علي الذي يجوب العالم لحل قضاياه المعقدة والمضحكة بأسلوب مرح وساخر يفتح النفس ويشرح الصدور. إدريس الشرايبي المرح هي الصورة التي ترسخت عنه عند قرائه، إذ لم يبخل عليهم بأسراره الصغيرة والكبيرة في سيره «سمعت، قرأت ورأيت»، «والعالم الذي بجواري»... عندما نتحدث اليوم عن إدريس الشرايبي ننسى أنه توأم للكاتب الروسي غوغول في امتلاكهما معا لنفس المعطف الذي خرجت منه الأجيال اللاحقة. فبدون صاحب «الماضي البسيط» لم يكن ممكنا أن نقرأ للطاهر بن جلون، عبد الكبير الخطيبي، عبد الحق سرحان، محمد لفتح، محمد حمودان، إدريس جايدان أو عبد الله الطايع. أب لم تكن تهمه هذه الذرية الأدبية بما أنه ظل متمردا على الجاهز في الأفكار والبشر والأحلام. هذا الموقف يكشف لنا عن الوجه الآخر لهذه الذرية الضائعة في عالم بلا خرائط. فإذا تجاوز الجيل الجديد إشكالية الكتابة باللغة الفرنسية، باعتبارها اختيارا وجوديا، فإنه عاجز إلى يومنا هذا عن الوصول إلى مدينة الكتابة المغايرة التي شيدها إدريس الشرايبي وجيل الرواد الذي جاء بعده. لسنا أمام حنين إلى الماضي، بل أمام جدار لغة لم تعد تغذيها حروب التمرد الصغيرة والكبيرة في الجسد والحياة والرموز. نعم. إننا أمام لغة تبحث عن مريدين بفضة المنح والمساعدات التي لن تخرجها من غرف الإنعاش المركز التي اعتصمت بها في مستعمراتها السابقة. إذ نادرا ما نضع اليد على كتاب مسكونين بالحقيقة؛ كتاب يعيدون سلاح الفرنسية إلى نحرها، كما فعل إدريس شرايبي أو كاتب ياسين أو محمد خير الدين، ليعمدوا حريتهم بدم لغات جديدة تطلع من أرض الاختلاف المتوحشة.
كاتب الزلزال لم يترك أبدا المغرب. لذلك لما اشتد به المرض أصر على إعادته لرحم الأرض التي بعثته سفيرا إلى العالم ليدفن بها. قال المرحوم لمجلة «أنفاس» في أيام عزها النضالي ضد الاستعمار الفرنسي: «لقد لزمتني عشر سنوات لأذهب إلى أقصى تمردي. أنا،أذهب دائما إلى نهاية المطاف، إذ لا أتنازل أبدا عما أومن به». تمرد الكاتب عموما ليس فرقعات نزين بها بعض المحافل الرسمية، إنه نار متقدة دوما في أعماق من وصل إلى سرّ كرامة الإنسان السحيقة. عاش متمردا ومات وفيا لتلك المغامرة الكبرى التي جعلت منه فاتحا لبلدان وجغرافيات لم يصل إليها أصحاب اللغة الفرنسية عينهم. نأتي من التراب ونعود إليه. بيد أن الشرايبي ترك إرثا حرا من كل الولاءات لا يعود إلى تراب النسيان، بل يبقى حيا في قلوب مجتمعات تتحرك في اتجاه أفق مشع كالشمس. في المغرب، احتفى القراء دائما بابن الشمس هذا، فكتب الرجل تأتي على رأس مبيعات الروايات المكتوبة بالفرنسية في المغرب. وهذا يعني أن التكريس الرسمي إذا لم يأت في يوم من الأيام ولاسيما في حياة هؤلاء الكتاب الكبار، فإنه يبقى في حالة شرود بالنسبة لهدير التاريخ الذي لا يأكل أبناءه الحقيقيين. إدريس الشرايبي كاملا بالعربية، مثلا. محمد خير الدين؟ يجوز لنا طبعا الحلم في حضرة كاتب خاصم دائما الأطباق البروتوكولية التي يلحسها الجميع، لأن طعامه كان يأتي دائما من أرض بعيدة تسمى: التمرد على الأعراف التي أكل ونام عليها الزمن. مات إدريس الشرايبي. عاش إدريس الشرايبي... قال العراف وصدق.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]