1 موسم مولاي عبد الله بمدينة الجديدة الإثنين يوليو 19, 2010 12:04 am
ahmed
عضو فعال
أصوات موسيقية شعبية تملأ المكان وتتخللها أدخنة كثيفة متصاعدة من محلات الشواء والأكلات الخفيفة. طلقات البارود وألوان من الفولكلور والفنون الشعبية تصدر أصواتها من جميع الاتجاهات. أضواء عجلات السيرك الضخمة وخيم الألعاب البهلوانية تتلألأ من بعيد فتلبس المنطقة ألوانا مزركشة تخفي بياضها الذي فرضته خيام الزوار.
"مقاه" و"مطاعم" تصدح بموسيقى الشيخات والأجواق وباعة الأشرطة السمعية البصرية هنا وهناك، فتختلط الموسيقى بأصوات الحلايقية والباعة الذين يعرضون، تحت أضواء قنينات الغاز، سلعهم على الزوار مستخدمين مكبرات صوت قوية.. أصناف عديدة من المأكولات والحلويات والمشروبات وألعاب سرك بهلوانية عديدة وطاولات القمار، إلى جانب حلقات أخرى في علم التنجيم والتنبؤ بالغيب تصيبك بالذهول.. هذا هو موسم مولاي عبد الله أمغار.
كراء الخيام
على بعد عشرة كيلومترات جنوب مدينة الجديدة، وعلى الطريق الساحلية المؤدية إلى الوليدية، تقع جماعة مولاي عبد الله التي حملت اسم وليها الشهير. وتعرف هذه الجماعة، التي كانت تسمى قديما بـ"تيط"، كل عام نزوح آلاف المغاربة من كل الجهات إليها، لحضور أكبر موسم على الصعيد الوطني، بالنظر إلى عدد زواره الذي يفوق المليونين وخيامه التي تحول فضاءه إلى ما يشبه مدينة خيام.
عقارب الساعة تجاوزت منتصف ليلة أمس الاثنين. الحافلات وسيارات الأجرة التي تربط بين مدينة الجديدة وجماعة مولاي عبد الله لا تزال تلفظ العشرات من الوافدين على الموسم، فرادى وجماعات، نساء ورجالا، صغارا وكبارا.
يخترق الزائر، بعد وصوله إلى "المحطة"، زقاقا متربا اصطفت على جنباته خيام تجارية غير متناسقة الأشكال، أغلبها مكتوب فوقها: "بيع وكراء الخيام".
مناسبة للرواج
كراء الأراضي والشقق، تحريك عجلة الاقتصاد المحلي وخلق العديد من فرص الشغل المؤقتة.. تلك من بين مزايا هذا الموسم بالنسبة إلى سكان المنطقة.
غير أن عددا من أهالي المنطقة الذين التقيناهم عبروا عن تذمرهم من "سوء تسيير مسؤولي الجماعة الأغنى في المغرب للموارد المالية التي يوفرها الموسم"، حيث استدلوا على أقوالهم بالإشارة إلى البنية التحتية الهشة التي تعيشها المنطقة على حد قولهم، وتساءل بعضهم: أين تصرف كل موارد الجماعة "الغارقة في الفضلات" لانعدام شبكة الوديان الحارة؟
لكن الحسن شيكر لمعاشي، رئيس جماعة مولاي عبد الله، يعتبر أن المستفيد الوحيد من هذا الموسم هم سكان الجماعة لا غير، مؤكدا أن أرباح الجماعة منه لا تتجاوز 28 مليون سنتيم من أصل 400 مليون المخصصة لتموينه، والموزعة على 6 صفقات متعلقة بتجهيز فضاء الموسم وكل ما يتعلق به.
طقوس الموسم
إذا كانت غالبية الزوار لا تأتي إلى موسم مولاي عبد الله إلا للاستجمام والاستمتاع بالعروض التي يوفرها طيلة انعقاده، فإن فئات أخرى تشد الرحال إلى هذا المكان من كل حدب وصوب لمآرب أخرى غير الاستمتاع.
إنها الفئة التي تأتي خصيصا لممارسة طقوس الولي الذي يرقد تحت قبة الضريح.
وطقوس هذا الولي الصالح لا تختلف عن سابقيه من الأولياء، بحيث تتقدم الزائرة أو الزائر داخل الضريح حاملين الشموع وقناني ماء الزهر لإفراغها على الضريح وبث شكواهم وطلباتهم عليه والتبرك به، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي الاستحمام بماء سبع موجات لطرد النحس. وفي ركن قريب من ضريح الوالي الصالح يوجد مكان مبلط في شكل دائرة يتوسطه عمود إسمنتي يشبه إلى حد ما قفص المتهمين داخل المحاكم، ويقصده المتخاصمون المتنازعون ليدفعوا بالمشتبه به إلى وضع يده اليمنى فوق العمود الإسمنتي فيبدأ بإلقاء اليمين ويعترف بالحقيقة فيفض النزاع بالوصول إلى حل يرضي الأطراف المتنازعة.
باحة ضريح هذا الولي الصالح بدت ليلة الأحد الاثنين مكتظة بالزوار، خاصة من النساء. عند مدخل الضريح صادفنا فقهاء مستلقين على جنبهم فوق حصير الدوم، وشرعوا يرتلون جماعة ما تيسر من القرآن الكريم وأعينهم تترصد كل الداخلين والخارجين من الضريح.
في الداخل، توجد ساحة (حوالي 12 مترا مربعا) مسيجة بشباك خشبي يضم فتحات يرمي منها الزوار هداياهم من الشمع أو قطع نقدية. عند إلقاء نظرة إلى داخل الساحة تتراءى لك أكوام كثيرة من علب الشمع بكلا حجميه، إلى جانب خبز وحلويات وأشياء أخرى ملفوفة وسط أكياس بلاستيكية سوداء.
ومن بين كثير من الزوار، دخلت فتاة في الثلاثينات من عمرها، متزينة، مرتدية ملابس ضيقة (لا تليق بهذا المقام). توجهت صوب إحدى الفتحات وهي تتمتم بكلمات غير مسموعة ثم أخرجت من حقيبتها "قرطاس شمع" وألقت به نحو الداخل.
وعند استفسارها عن دلالة ما قامت به، أجابت بأنها قرأت سورة الإخلاص 11 مرة ثم قدمت الشمع كهدية ليستفيد منها القيمون على الضريح، لكنها شددت على أنها لم تقم سوى بطقوس عادية ولا تؤمن بممارسات الشعوذة والدجل.
وفي مكان آخر شرق ضريح الوالي يوجد المشور على بعد أمتار من جانب المقبرة، وهو عبارة عن بيت عار لا تتعدى مساحته عشرة أمتار وبدون باب، جدرانه مطلية بالجير وأغلب زواره من النساء يقصدنه بغرض الشكوى وكلهن أمل في أن ينصفن من غبن أو ظلم يلاحقهن. وتمتد على جنبات الولي خيام وبيوت لشوافات وقارئات الطالع وتذويب اللدون…
التبوريدة
أكثر العروض التي تستأثر باهتمام زوار هذا الموسم هي الفروسية أو "التبوريدة"، خاصة أن منطقة الجديدة تشتهر بهذا النوع من الفنون.
ويشارك في هذا الموسم أزيد من 1290 فارسا يشكلون 78 فرقة (سرْبة) تمثل مختلف مناطق المغرب
وتقضي عادات الموسم بأن ينصرف الناس إلى قضاء مآربهم خلال الفترة الصباحية ويتجه الزوار صوب البحر، بينما يخصصون فترة ما بعد الظهر للتفرج على الخيالة.
ويرتدي الفرسان ملابسهم التقليدية ويركبون جيادهم انطلاقا من خيامهم إلى ميدان الفروسية، الذي يصطلح عليه محليا بـ"المحرك". ويجتمع عشرات الفرسان في صف واحد "السربة"، وكل سربة تمثل جماعة أو قبيلة في انتظار إشارة من قائدهم "العلام" للانطلاق.
وحين يصيح العلام قائلا: "أهاو أهاو" ترفع البنادق عاليا ثم يردد: "الحافظ الله" إشارة منه ببدء الانطلاق للعدو والركض.
وعند سماع "هوب" يطلق البارود موحدا عند خط الوصول فتعلو زغاريد النساء وهتاف الحناجر بقول "اللهم صلي عليك يا رسول الله" إيذانا بنجاح السربة.. أما إذا أخطأ أحدهم بالضغط على زناد "المكحلة" خارج السرب فإنه يعاقب بالترجل عن فرسه وسط حنق وسخط أبناء قبيلته أو الجماعة التي ينتمي إليها.
لكن ورغم الشعبية التي تحظى بها هذه الهواية، إلا أن ممارسيها لا يلقون الدعم الكافي والتشجيع من طرف السلطات المسؤولة عن المواسم والمهرجانات بشكل عام، حسب شهادات الكثير من الخيالة الذين عبروا في تصريحاتهم عن هزالة التعويضات التي يتلقونها عقب كل مشاركة لهم في أي نشاط.
وقال المصطفى أبو الليث، قائد سربتي قبيلة أولا عمران للرجال والنساء: "إننا نصرف أموالا طائلة ونتكبد مشاق كبيرة لكي نشارك في المواسم، حبا لهذه الهواية، لكن المسؤولين لا يشجعوننا قط".
وعبر أبو الليث (56 سنة) عن امتعاضه من هزالة التعويضات التي يوزعها المنظمون على الخيالة نهاية كل موسم، حيث أوضح أنها لا تتجاوز 100 درهم لكل فرس، وهو ما اعتبره "انتقاصا من قيمة العود وتبخيسا لمجهودات صاحبه"، قبل أن يتساءل مستنكرا: "ميا درهم فاش غاتنفع؟ حنا خاسرين الزبابل ديال الفلوس باش نجيو وفي الأخير ماكيعطيوك حتى قيمة..".
لكنه عاد ليقول: "لولا البلية (حب التبوريدة) لما تكبدنا المشاق من أجل المشاركة في هذا الموسم أو غيره".
التسليم.. شايلاه آمولاي عبد الله أمغار
حسب لوحة معلقة في فناء ضريح الشيخ مولاي عبد الله، فإن نسب هذا الأخير، صاحب زاوية تيط، هو مولاي عبد الله محمد بن أبي جعفر إسحاق بن أبي الفذ إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم بن يحيى بن موسى بن عبد الكريم بن مسعود بن صالح بن عبد الله بن عبد الرحمان بن محمد بن أبي بكر بن تميم بن ياسر(أو ياسين) بن عمر بن أبي القاسم بن عبد الله بن الحسين المثنى بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم.
ولد بمدينة أيير، حيث كان والده يتعاطى التدريس، فاعتنى بتربيته هو وأخوه جعفر فنشأ الولدان نشأة صلاح، ولم يزل والدهما يروضهما على سننه في العبادة وشؤون آبائه وأجداده ويعلمهما مع الطلبة حتى فتح الله على ابنه أبي عبد الله محمد أمغار، فظهر عليه صلاح وولاية واجتهاد في العلم والعبادة حتى بلغ مبلغا لا يبلغه إلا الأفراد العارفون.
وللأمغاريين مكانة بارزة في التصوف المغربي، فسند مولاي عبد الله هو امتداد لسند أبي شعيب أيوب سعيد (السارية) والجنيد ثم الشاذلي، بواسطة أبي يعزى فأبي مدين فعبد الرحمان المدني الزيات وابن مشيش.
وقد اشتهر الشيخ مولاي عبد الله بغزارة علمه وسعة اطلاعه وكانت تتوافد عليه الوفود برباط تيط من كل حدب وصوب، لاستشارته والتزود بنصائحه وأغلب الأولياء والصالحين بساحل دكالة من تلامذته أو تلامذة أولاده وأحفاده.
ومن الكرامات التي تحكى عنه أنه كان يوتر الصلات في جزيرة صغيرة وسط البحر لم يعد لها أثر اليوم.
وكان يخلع نعليه ويخطو باتجاه البحر سائرا حافي القدمين على سطح الماء دون أن تبتل قدماه أو يغرق حتى يبلغ أطراف الجزيرة صحبة أتباعه يراقبونه من بعيد وهم مشدوهون فاغري الفاه لا يصدقون ما ترى أعينهم لأن هذا المشهد غريب جدا.
وتعتبر تيط رباطا كبيرا أسسته أسرة شريفة رابطت بالمنطقة في منتصف القرن الثاني الميلادي، وعندما نزل البرتغاليون بمدينة أزمور أعلن سكان تيط خضوعهم والتزموا لهم بأداء إتاوة سنوية، لكن السلطان الوطاسي محمد نظم حملة عسكرية ضد البرتغاليين، واستولى على تيط وقتل جابي الملك البرتغالي ورحل سكان المدينة إلى ضواحي فاس ثم أمر بتخريب الأسوار حتى لا يستعمل البرتغاليون هذا الحصن.
ويذكر الكانوني أنه قد دفن بتيط من الأمغاريين الشيخ أبو الفداء إسماعيل والشيخ أبو عبد الله أمغار. وفي هذه الفترة بالذات كانت مدينة تيط تفقد تدريجيا أهميتها الاقتصادية والإستراتيجية لتتحول إلى قرية صغيرة وسط أطلال الرباط القديمة.
وتسمية المدينة بـ"تيط" يرجع إلى أصول أمازيغية، وتعني العين. وحسب المصادر الإسلامية فإن المنطقة كانت تسمى بالأمازيغية "تيط ن فطر" أي عين فطر، بينما تقول بعض الروايات الشفوية إن هذه التسمية جاءت بناء على كون سكان المنطقة كانوا يفطرون بالماء بعد الصيام قبل تناول الفطور.
ومنذ مئات السنين، أصبح موسم مولاي عبد الله واحدا من أهم التظاهرات الدينية والثقافية على الصعيد الوطني. ينظم برباط تيط (مركز مولاي عبد الله حاليا) من طرف قبائل دكالة احتفاء بالولي الصالح مولاي عبد الله أمغار.
وفي أيام الموسم، يفد إلى جماعة مولاي عبد الله آلاف الزوار ليشكلوا امتدادا بشريا هائلا هو أقرب إلى نزوح شبه جماعي يتكرر في كل سنة.
وتتوزع المظاهر الاحتفالية للموسم بين الأنشطة الدينية بضريح الولي الصالح والمسجد التابع له والأنشطة الفكرية والثقافية والترفيهية بمختلف فضاءات الموسم. ويتميز باستمرار أنشطته، فإذا كان النهار يخصص لألعاب الفروسية والصيد بالصقور، أما الليل فيشهد حفلات فنية شعبية وتراث الحلقة.
"مقاه" و"مطاعم" تصدح بموسيقى الشيخات والأجواق وباعة الأشرطة السمعية البصرية هنا وهناك، فتختلط الموسيقى بأصوات الحلايقية والباعة الذين يعرضون، تحت أضواء قنينات الغاز، سلعهم على الزوار مستخدمين مكبرات صوت قوية.. أصناف عديدة من المأكولات والحلويات والمشروبات وألعاب سرك بهلوانية عديدة وطاولات القمار، إلى جانب حلقات أخرى في علم التنجيم والتنبؤ بالغيب تصيبك بالذهول.. هذا هو موسم مولاي عبد الله أمغار.
كراء الخيام
على بعد عشرة كيلومترات جنوب مدينة الجديدة، وعلى الطريق الساحلية المؤدية إلى الوليدية، تقع جماعة مولاي عبد الله التي حملت اسم وليها الشهير. وتعرف هذه الجماعة، التي كانت تسمى قديما بـ"تيط"، كل عام نزوح آلاف المغاربة من كل الجهات إليها، لحضور أكبر موسم على الصعيد الوطني، بالنظر إلى عدد زواره الذي يفوق المليونين وخيامه التي تحول فضاءه إلى ما يشبه مدينة خيام.
عقارب الساعة تجاوزت منتصف ليلة أمس الاثنين. الحافلات وسيارات الأجرة التي تربط بين مدينة الجديدة وجماعة مولاي عبد الله لا تزال تلفظ العشرات من الوافدين على الموسم، فرادى وجماعات، نساء ورجالا، صغارا وكبارا.
يخترق الزائر، بعد وصوله إلى "المحطة"، زقاقا متربا اصطفت على جنباته خيام تجارية غير متناسقة الأشكال، أغلبها مكتوب فوقها: "بيع وكراء الخيام".
مناسبة للرواج
كراء الأراضي والشقق، تحريك عجلة الاقتصاد المحلي وخلق العديد من فرص الشغل المؤقتة.. تلك من بين مزايا هذا الموسم بالنسبة إلى سكان المنطقة.
غير أن عددا من أهالي المنطقة الذين التقيناهم عبروا عن تذمرهم من "سوء تسيير مسؤولي الجماعة الأغنى في المغرب للموارد المالية التي يوفرها الموسم"، حيث استدلوا على أقوالهم بالإشارة إلى البنية التحتية الهشة التي تعيشها المنطقة على حد قولهم، وتساءل بعضهم: أين تصرف كل موارد الجماعة "الغارقة في الفضلات" لانعدام شبكة الوديان الحارة؟
لكن الحسن شيكر لمعاشي، رئيس جماعة مولاي عبد الله، يعتبر أن المستفيد الوحيد من هذا الموسم هم سكان الجماعة لا غير، مؤكدا أن أرباح الجماعة منه لا تتجاوز 28 مليون سنتيم من أصل 400 مليون المخصصة لتموينه، والموزعة على 6 صفقات متعلقة بتجهيز فضاء الموسم وكل ما يتعلق به.
طقوس الموسم
إذا كانت غالبية الزوار لا تأتي إلى موسم مولاي عبد الله إلا للاستجمام والاستمتاع بالعروض التي يوفرها طيلة انعقاده، فإن فئات أخرى تشد الرحال إلى هذا المكان من كل حدب وصوب لمآرب أخرى غير الاستمتاع.
إنها الفئة التي تأتي خصيصا لممارسة طقوس الولي الذي يرقد تحت قبة الضريح.
وطقوس هذا الولي الصالح لا تختلف عن سابقيه من الأولياء، بحيث تتقدم الزائرة أو الزائر داخل الضريح حاملين الشموع وقناني ماء الزهر لإفراغها على الضريح وبث شكواهم وطلباتهم عليه والتبرك به، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي الاستحمام بماء سبع موجات لطرد النحس. وفي ركن قريب من ضريح الوالي الصالح يوجد مكان مبلط في شكل دائرة يتوسطه عمود إسمنتي يشبه إلى حد ما قفص المتهمين داخل المحاكم، ويقصده المتخاصمون المتنازعون ليدفعوا بالمشتبه به إلى وضع يده اليمنى فوق العمود الإسمنتي فيبدأ بإلقاء اليمين ويعترف بالحقيقة فيفض النزاع بالوصول إلى حل يرضي الأطراف المتنازعة.
باحة ضريح هذا الولي الصالح بدت ليلة الأحد الاثنين مكتظة بالزوار، خاصة من النساء. عند مدخل الضريح صادفنا فقهاء مستلقين على جنبهم فوق حصير الدوم، وشرعوا يرتلون جماعة ما تيسر من القرآن الكريم وأعينهم تترصد كل الداخلين والخارجين من الضريح.
في الداخل، توجد ساحة (حوالي 12 مترا مربعا) مسيجة بشباك خشبي يضم فتحات يرمي منها الزوار هداياهم من الشمع أو قطع نقدية. عند إلقاء نظرة إلى داخل الساحة تتراءى لك أكوام كثيرة من علب الشمع بكلا حجميه، إلى جانب خبز وحلويات وأشياء أخرى ملفوفة وسط أكياس بلاستيكية سوداء.
ومن بين كثير من الزوار، دخلت فتاة في الثلاثينات من عمرها، متزينة، مرتدية ملابس ضيقة (لا تليق بهذا المقام). توجهت صوب إحدى الفتحات وهي تتمتم بكلمات غير مسموعة ثم أخرجت من حقيبتها "قرطاس شمع" وألقت به نحو الداخل.
وعند استفسارها عن دلالة ما قامت به، أجابت بأنها قرأت سورة الإخلاص 11 مرة ثم قدمت الشمع كهدية ليستفيد منها القيمون على الضريح، لكنها شددت على أنها لم تقم سوى بطقوس عادية ولا تؤمن بممارسات الشعوذة والدجل.
وفي مكان آخر شرق ضريح الوالي يوجد المشور على بعد أمتار من جانب المقبرة، وهو عبارة عن بيت عار لا تتعدى مساحته عشرة أمتار وبدون باب، جدرانه مطلية بالجير وأغلب زواره من النساء يقصدنه بغرض الشكوى وكلهن أمل في أن ينصفن من غبن أو ظلم يلاحقهن. وتمتد على جنبات الولي خيام وبيوت لشوافات وقارئات الطالع وتذويب اللدون…
التبوريدة
أكثر العروض التي تستأثر باهتمام زوار هذا الموسم هي الفروسية أو "التبوريدة"، خاصة أن منطقة الجديدة تشتهر بهذا النوع من الفنون.
ويشارك في هذا الموسم أزيد من 1290 فارسا يشكلون 78 فرقة (سرْبة) تمثل مختلف مناطق المغرب
وتقضي عادات الموسم بأن ينصرف الناس إلى قضاء مآربهم خلال الفترة الصباحية ويتجه الزوار صوب البحر، بينما يخصصون فترة ما بعد الظهر للتفرج على الخيالة.
ويرتدي الفرسان ملابسهم التقليدية ويركبون جيادهم انطلاقا من خيامهم إلى ميدان الفروسية، الذي يصطلح عليه محليا بـ"المحرك". ويجتمع عشرات الفرسان في صف واحد "السربة"، وكل سربة تمثل جماعة أو قبيلة في انتظار إشارة من قائدهم "العلام" للانطلاق.
وحين يصيح العلام قائلا: "أهاو أهاو" ترفع البنادق عاليا ثم يردد: "الحافظ الله" إشارة منه ببدء الانطلاق للعدو والركض.
وعند سماع "هوب" يطلق البارود موحدا عند خط الوصول فتعلو زغاريد النساء وهتاف الحناجر بقول "اللهم صلي عليك يا رسول الله" إيذانا بنجاح السربة.. أما إذا أخطأ أحدهم بالضغط على زناد "المكحلة" خارج السرب فإنه يعاقب بالترجل عن فرسه وسط حنق وسخط أبناء قبيلته أو الجماعة التي ينتمي إليها.
لكن ورغم الشعبية التي تحظى بها هذه الهواية، إلا أن ممارسيها لا يلقون الدعم الكافي والتشجيع من طرف السلطات المسؤولة عن المواسم والمهرجانات بشكل عام، حسب شهادات الكثير من الخيالة الذين عبروا في تصريحاتهم عن هزالة التعويضات التي يتلقونها عقب كل مشاركة لهم في أي نشاط.
وقال المصطفى أبو الليث، قائد سربتي قبيلة أولا عمران للرجال والنساء: "إننا نصرف أموالا طائلة ونتكبد مشاق كبيرة لكي نشارك في المواسم، حبا لهذه الهواية، لكن المسؤولين لا يشجعوننا قط".
وعبر أبو الليث (56 سنة) عن امتعاضه من هزالة التعويضات التي يوزعها المنظمون على الخيالة نهاية كل موسم، حيث أوضح أنها لا تتجاوز 100 درهم لكل فرس، وهو ما اعتبره "انتقاصا من قيمة العود وتبخيسا لمجهودات صاحبه"، قبل أن يتساءل مستنكرا: "ميا درهم فاش غاتنفع؟ حنا خاسرين الزبابل ديال الفلوس باش نجيو وفي الأخير ماكيعطيوك حتى قيمة..".
لكنه عاد ليقول: "لولا البلية (حب التبوريدة) لما تكبدنا المشاق من أجل المشاركة في هذا الموسم أو غيره".
التسليم.. شايلاه آمولاي عبد الله أمغار
حسب لوحة معلقة في فناء ضريح الشيخ مولاي عبد الله، فإن نسب هذا الأخير، صاحب زاوية تيط، هو مولاي عبد الله محمد بن أبي جعفر إسحاق بن أبي الفذ إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم بن يحيى بن موسى بن عبد الكريم بن مسعود بن صالح بن عبد الله بن عبد الرحمان بن محمد بن أبي بكر بن تميم بن ياسر(أو ياسين) بن عمر بن أبي القاسم بن عبد الله بن الحسين المثنى بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم.
ولد بمدينة أيير، حيث كان والده يتعاطى التدريس، فاعتنى بتربيته هو وأخوه جعفر فنشأ الولدان نشأة صلاح، ولم يزل والدهما يروضهما على سننه في العبادة وشؤون آبائه وأجداده ويعلمهما مع الطلبة حتى فتح الله على ابنه أبي عبد الله محمد أمغار، فظهر عليه صلاح وولاية واجتهاد في العلم والعبادة حتى بلغ مبلغا لا يبلغه إلا الأفراد العارفون.
وللأمغاريين مكانة بارزة في التصوف المغربي، فسند مولاي عبد الله هو امتداد لسند أبي شعيب أيوب سعيد (السارية) والجنيد ثم الشاذلي، بواسطة أبي يعزى فأبي مدين فعبد الرحمان المدني الزيات وابن مشيش.
وقد اشتهر الشيخ مولاي عبد الله بغزارة علمه وسعة اطلاعه وكانت تتوافد عليه الوفود برباط تيط من كل حدب وصوب، لاستشارته والتزود بنصائحه وأغلب الأولياء والصالحين بساحل دكالة من تلامذته أو تلامذة أولاده وأحفاده.
ومن الكرامات التي تحكى عنه أنه كان يوتر الصلات في جزيرة صغيرة وسط البحر لم يعد لها أثر اليوم.
وكان يخلع نعليه ويخطو باتجاه البحر سائرا حافي القدمين على سطح الماء دون أن تبتل قدماه أو يغرق حتى يبلغ أطراف الجزيرة صحبة أتباعه يراقبونه من بعيد وهم مشدوهون فاغري الفاه لا يصدقون ما ترى أعينهم لأن هذا المشهد غريب جدا.
وتعتبر تيط رباطا كبيرا أسسته أسرة شريفة رابطت بالمنطقة في منتصف القرن الثاني الميلادي، وعندما نزل البرتغاليون بمدينة أزمور أعلن سكان تيط خضوعهم والتزموا لهم بأداء إتاوة سنوية، لكن السلطان الوطاسي محمد نظم حملة عسكرية ضد البرتغاليين، واستولى على تيط وقتل جابي الملك البرتغالي ورحل سكان المدينة إلى ضواحي فاس ثم أمر بتخريب الأسوار حتى لا يستعمل البرتغاليون هذا الحصن.
ويذكر الكانوني أنه قد دفن بتيط من الأمغاريين الشيخ أبو الفداء إسماعيل والشيخ أبو عبد الله أمغار. وفي هذه الفترة بالذات كانت مدينة تيط تفقد تدريجيا أهميتها الاقتصادية والإستراتيجية لتتحول إلى قرية صغيرة وسط أطلال الرباط القديمة.
وتسمية المدينة بـ"تيط" يرجع إلى أصول أمازيغية، وتعني العين. وحسب المصادر الإسلامية فإن المنطقة كانت تسمى بالأمازيغية "تيط ن فطر" أي عين فطر، بينما تقول بعض الروايات الشفوية إن هذه التسمية جاءت بناء على كون سكان المنطقة كانوا يفطرون بالماء بعد الصيام قبل تناول الفطور.
ومنذ مئات السنين، أصبح موسم مولاي عبد الله واحدا من أهم التظاهرات الدينية والثقافية على الصعيد الوطني. ينظم برباط تيط (مركز مولاي عبد الله حاليا) من طرف قبائل دكالة احتفاء بالولي الصالح مولاي عبد الله أمغار.
وفي أيام الموسم، يفد إلى جماعة مولاي عبد الله آلاف الزوار ليشكلوا امتدادا بشريا هائلا هو أقرب إلى نزوح شبه جماعي يتكرر في كل سنة.
وتتوزع المظاهر الاحتفالية للموسم بين الأنشطة الدينية بضريح الولي الصالح والمسجد التابع له والأنشطة الفكرية والثقافية والترفيهية بمختلف فضاءات الموسم. ويتميز باستمرار أنشطته، فإذا كان النهار يخصص لألعاب الفروسية والصيد بالصقور، أما الليل فيشهد حفلات فنية شعبية وتراث الحلقة.