1 أطوار ثورة أولاد زيد ونتائجها الكبرى2 الجمعة يناير 01, 2010 10:51 am
admin
Admin
فهذه الإجراءات في اعتقادنا تنم عن حكمة وتبصر وبعد نظر عند القائد عيسى بن عمر، وفي ذات الوقت تشي بمقدار الفزع والخوف اللذان كانا يتملكانه، ويمكن أن نخلص إلى القول أنها فعلت فعلها في قبيلة البحاترة ، ولكنها مع ذلك لم تحقق الهدف المبتغى منها كاملا، فقد تولدت عنها نتيجتان مختلفتان :
1- فهي من جهة أولى نجحت في أن تطأطئ الكثير من الرؤوس، التي كانت تتطلع بطريق أو بآخر إلى تفجير الفتنة، وأنها حفظت أكثر إيالته من الفوضى وعدم الاستقرار.
2- أنها من جهة ثانية لم تنجح في تليين فخدة أولاد زيد، وإخماد ما كان يغلي برأس سراتها من نزوع إلى التمرد، بل حملتها هذه الإجراءات على الاستهانة بعيسى بن عمر واستضعافه (38) ليزيد نفورها منه وكراهيتها له(39)، ووجدت فيها فرصة لا تعوض للثورة والانقضاض على قائدها، فتنادى أولاد زيد بالعصيان والتحرر، وزادهم حماسا قول شاعرتهم حويدة :
"أنا عبدة لعبدة
ولسي عيسى لا
نوضا نوضا حتى لبوكشور
نوضا نوضا حتى دار السي قدور(40)
ويظهر أن هذا الموقف النشز من أولاد زيد خلافا لبقية فخدات البحاترة، ينم عن تحد صارخ وعزم ثابت في الانتفاض ضد عيسى بن عمر وحربه بأي ثمن وكيفما كانت العواقب والتبعات، ويمكن أن نجد ما يبرر هذا الموقف في العوامل التالية :
1-أن أولاد زيد كانوا بلا شك يستشعرون بقوة غربتهم واختلافهم عن باقي فرق قبيلة البحاترة ومجموع عبدة، ولعلهم كانوا يستقوون بذلك ، مما كان يصيبهم بنوع من الانتشاء والاعتزاز والنخوة، وينفخ في نفوسهم الرغبة في الانفصال، والظفر بقيادة مستقلة تخصهم، ومن المحقق أن هذه الرغبة كانت مستحكمة فيهم متجذرة، بدليل أنها ظلت متقدة وحية وقوية حتى بعد إخماد ثورتهم وسحق رؤوسها، مما قاد سلطات الحماية إلى تحقيقها سنة 1913، بفصل أولاد زيد عن إيالة عيسى بن عمر، وضمها إلى فخدة الجحوش، وتأسيس إيالة مستقلة من الفخذتين الزيديتين، انتدب لإدارتها أحد أبناء أولاد زيد، وهو في الأصل أحد أعضاء قيادة ثورة 1895، وهو نجل زعيمها المدعو الزرهوني .
2- أن شيخ أولاد زيد محمد بن ملوك، زعيم الثورة، كان يتوق بتلهف إلى الحصول على منصب القايدية، مدعومـا بقومه، ولاشك أنه كان يرى في نفسه كل الشروط الموصلة إليها، وأهمها الغنى والوجاهة، واحترام وتقدير أولاد زيد له والتفافهم حوله ، وزاده تمسكا بمسعاه، أن أحد كاشفي الطالع تهجس له بقرب نيل مبتغاه،(41) فقد أذهله بفراسته، يوم طرق باب داره مناديا إياه "بالقايد الحاج محمد ملوك "(42)، ويبدو أن هذا الحلم ظل يراود أسرة محمد بن ملوك حتى بعد اعتقال هذا الأخير وموته في الحبس ، ليتحقق بعد حوالي عشرين سنة، بتعيين نجله الزرهوني- كما تقدم - قائدا على الساحل، ومن شدة فرحته بتحقيق حلم أسرته وعشيرته، أقام الأفراح والولائم مدة لم تقل عن ثلاثة أيام ، حضرها المآت من الوجهاء والأعيان(43).
3 - أن فخذة أولاد زيد كانت أكثر الفخذات تشكيا من فروض المخزن وتوظيفاته، بحكم فقر أراضيها الصخرية وكثرة سكانها، الأمر الذي كان يدفع بقسم من سكانها في سنوات المسغبة، إلى ترك ديارهم والفرار بعيدا وتدفع بآخرين إلى اقتراف أعمال اللصوصية والنهب بالطرق والأسواق، كما حصل سنة 1825، إذ أغار نفر من أولاد زيد على سوق "حد احرارة"، الذي يعقد بديارهم "ونهبوا لأهل آسفي ما بيدهم من السلع وجرحوا البعض"(44).
4- أن القائد عيسى بن عمر حين توجه إلى أولاد زيد لتجريدهم من سلاحهم وخيلهم، كما فعل مع باقي فخدات قبيلته، اعترضوا بمعية "رئيسهم الشيخ الحاج محمد بن ملوك، ورفضوا الرضوخ لذلك "(45)، ووجدوا في هذا الإجراء سببا مناسبا ومباشرا لقدح شرارة ثورتهم، ونشر نارها وحريقها بمجموع إيالته.
وكان إعلان ثورة أولاد زيد بتاريخ "12محرم سنة 1313هـ"(46)، الذي يوافق 5 يوليوز من سنة 1895(47)، وذلك بتدبير وتحريض وقيادة شيخهم محمد بن ملوك، الذي يدين بشياخة قومه إلى القائد عيسى بن عمر(48)، الذي سبق أن استقطبه، ليكون من ضمن عصابته وخاصته، بل وجعله من أهله، بعد أن صاهره بتزويجه إحدى بناته، وهي المشهورة باسم "البيضة"، وبذلك يكون محمد من ملوك من زمرة ما يسميهم الأستاذ التوفبق بالشيوخ المصطافين، الذين كان العمال والقواد يقربونهم منهم، ويشملونهم بمزيد من الحدب والتقدير والصحبة، وينتدبونهم في أداء بعض المهام والمأموريات السامية، واصطحابهم معهم إلى الحضرة السلطانية في مناسبات مختلفة(49)، مما كان يزيد من نفوذهم
داخل بطانة القائد، ويمنحهم مزيدا من الحظوة والاعتبار داخل قبيلتهم، ويمكنهم من نسج علاقات متميزة مع بعض رجال المخزن المرموقين، توسوس لهم ببعض الطموحات فيرونها قريبة منهم وسهلة المنال.
وحتى يتيسر علينا متابعة تطورات ثورة أولاد زيد والإحاطة بأهم وقائعها، ارتأينا حصر مجريات أحداثها ووقائعها في خمسة أطوار كبرى.
- الطور الأول: يبتدئ من 12 محرم 1313 إلى 23 منه موافق من 5 يوليوز إلى 15 يوليوز 1895، وفيها جرب عيسى بن عمر بقوة خيارين، بعد جسه لقوة الثوار وتقديره المسبق لعواقب وتبعات فعلتهم، وذلك بسلوك طريقين بطلب الصلح والإلحاح عليه، مع الضرب على مضاربهم بقوة وشراسة ، وذلك باعتماد تكتيك الأرض المحروقة، في محاولة منه لاحتواء الثورة وسحقها قبل أن يتسع خرقها، ويكبر مدى تدميرها :
1-فبعد أن أعلن أولاد زيد بزعامة "رئيسهم الشيخ محمد بن ملوك"(50) عصيانهم، وتنادوا بقتال قائدهم عيسى بن عمر، تجمهرت أعداد منهم وراء أسوار حصن كاسين، المتبقي من عهد الاحتلال البرتغالي الغابر، والكائن بفرقة أولاد رحال من أولاد زيد، واحتمى آخرون وتحصنوا بأجراف ومغاور ساحل البحر، وحاول القائد بالحسنى ثنيهم عن المضي قدما في تمردهم واستمالتهم إلى الصلح والطاعة "فلم يقبلوا"(51) وجوابا على عنادهم وتصلبهم ، لم يجد القائد طريقا آخر غير مهاجمتهم في جنده "من دكالة وإخوانه ثمرة"(52)، فاستبسل الثوار في مقاومته وصده، فكانت "الحرب بينهم سجالا"(53)، ردت القائد على عقبه، ومنعته من بلوغ مراده بالنيل من الثوار وإسكات فتنتهم .
2-شعر القائد عيسى بعد هذا الاحتكاك العسكري الأول، أنه أمام خطر حقيقي داهم، يجب حسم أمره باستعجال، وبدون تراخ أو إبطاء، فراح يكثف من وساطاته لحمل الثوار على القبول بالصلح، فاستشفع الشرفاء الغنيميين(54)، وأولاد سيدي عبدالله بن احساين(55)، كما بعث لهم بأغطية الشيخ أبي محمد صالح ولي أسفي، وسيدي بلعباس ولي مراكش، وسيدي عبدالله أمغار ولي الجديدة ،(56) وكان جواب أولاد زيد وزعمائهم هو الرفض التام، " فلم يقبلوا صلحا إلا حربه وهدم داره"(57)، والتحرر نهائيا من قبضة قيادته.
3- ثم رأى القائد عيسى أن يجرب مرة أخرى ضربهم وبقوة شديدة حتى يذعنوا وينصاعوا، ويذهب غرورهم وتلين قناتهم، فاستجمع قوته وقصدهم بحصن كاسين "فأذاقهم أليم العذاب والنكال"(58)، حتى أخرجهم وأجلاهم عنه، و"هدمه بالفؤوس حتى صيره حصيرا "(59) ،ومضى يعيث في بلادهم حرقا وتخريبا وهدما ، حتى" لم يعد قائما فيها من البناء سوى المساجد"(60)، وراح يتعقب فلولهم بكل مكان، ليوقع بهم في أماكن مختلفة من ديار أولاد زيد وخارجها ، في فليفل والضريضرات بفرقة الجليدات الزيدية ، وبفرطميس من أراضي ثمرة ، وبالوكاكدة من قبيلة العامر، وبالدبرة ناحية أسفي وغيرها(61)، ولكن الثوار وزعمائهم لم يضعفوا، ويجيبوا قائدهم إلى مبتغاه، بإجراء الصلح والعودة إلى طاعته، بل اختاروا اللجوء إلى آسفي في 23 محرم .
- الطور الثاني: يبتدئ من 23 محرم إلى 5 ربيع الأول موافق من 16 يوليوز إلى 26غشت، وفيه ركب الثوار خطة ذكية، بانتقال زعماءهم وأهليهم إلى أسفي وناحيتها، حتى يتمنعوا عن يد بطش القائد عيسى ، ويعملوا فيها على تقوية صفوفهم بالتزود بالسلاح وكسب مزيد من الأنصار والمشايعين، وللتقرب من عامل آسفي، غريم القائد، وكسب تأييده ووساطته لدى المخزن المركزي في إزاحته، وكان من مجريات أحداث هذا الطور:
1- أن قيادة ثورة أولاد زيد وضمنها محمد بن ملوك لجئوا إلى ضريح الشيخ أبي محمد صالح ، حتى يستحرموا به ويتحصنوا من غدر عيسى بن عمر ومداهماته العسكرية (62)، وإمعانا في الاحتراس أقاموا أكواخا وأخصاصا بمحيط الضريح، وزادوا في حيطتهم بتسييجه بسياج من قصب(63) في وقت تقدمت فيه نخبة منهم "بثور هدية" لعامل أسفي حمزة بنهيمة(64)، مفتتحة بذلك أول اتصال مباشر بين الثوار وعامل أسفي تركز فيه الحديث حول قضيتين :
في الأولى : شرح أولاد زيد تفاصيل تذمرهم من قائدهم ، وطالبوا تدخل العامل بنهيمة لتبليغ شكواهم إلى السلطان، حتى يمكن " نزع السيد عيسى من الولاية عليهم وتولية غيره مكانه"(65). ولا أستبعد أن يكون عامل أسفي قد أفهم الثوار صعوبة تحقيق مطلبهم ، لأن قائدهم " كان ملحوظا إذ ذاك لدى المخزن"(66)، ويصعب تنحيته وإقصاءه.
ثانيهما : مطالبة بنهيمة "بأن يأذن لهم في شراء البارود والرصاص من(ميناء) آسف"، لكنه رفض، "ولم يأذن لهم في شيء"(67).
2- وفي ذات الوقت اتجه الثوار إلى تعزيز صفوفهم، باستقطاب فرق قبلية أخرى من أولاد زيد وغيرها ببادية آسفي،" فظاهرهم (68) آل غياث وأولاد سليمان والمغاوير وأولاد لحسـن وغيرهم، فاشتد أمرهم وجعلوا يشنون الغارات على من لم ينخرط في سلكهم"(69).
3- كان رد فعل القائد عيسى بن عمر إزاء هذا التطورالدقيق، يتسم باليقضة والسعي إلى إعمال كل حيلة ممكنة، لإخراج الثوار من آسفي، وتفويت الفرصة على غريمه عامل آسفي حتى لا يوقع به لدى المخزن المركزي .
فما كان منه إلا أن مد يد الصلح ومن جديد إلى الثوار، فبعث إلى رئيسهم محمد بن ملوك ،"من أمنه وعاهده بالضريح المذكور"(70)، ولكنه مرة أخرى لم يستجب ، ثم كرر القائد المحاولة " فطلبهم القائد العسال السحيمي وأهل حمير(احمر) وأهل آسفي في الصلح "(71)، لكن الثوار رفضوا و"لم يقبلوا"(72)، ليقوم القائد عيسى بشن هجوم على الثوار بناحية آسفي، ويلحق متعمدا بعض الضرر بأهلها، إذ سمح لشيعته بنهب "مواشي أهل آسفي وأموالهم"(73)، حتى يحملهم على طرد الثوار، وهو ما حصل بالفعل، إذ طلب أهل أسفي منهم الابتعاد عن المدينة، فوجدها القائد فرصة سانحة، فكر عليهم بالضريضرات، فهزمهم ونجح في"قتل بعض رؤسائهم"(74)، وفي خطوة ثالثة قام القائد برفع شكوى إلى السلطان يشكو إليه سلبية موقف العامل بنهيمة وتقاعسه عن نصرته، وأكثر من ذلك اتهمه بشد عضد الثوار(75).
4- فجاء أمر سلطاني إلى عامل آسفي يستعجله التدخل لإجراء الصلح بين القائد عيسى والخارجين عليه ، فكاتب بنهيمة القائد المذكور،" الذي أوفد من ناب عنه وحضر بذلك رؤساء عبدة وعمالها وحمير (أحمر) "(76)، وحصل لقاء مع "رؤساء الفتنة"(77)، بمخبئهم وملجئهم في ضريح الشيخ أبي محمد صالح " فاصطلحوا...وتفرق الناس وآمنت السبل"(78).
- الطور الثالث : يبتدئ من 5 ربيع الأول إلى 18 جمادى الأولى موافق من 26 غشت إلى 7 نونبر، وفيه طالب القائد عيسى السلطان بتمكينه من عدة شروط لوجستية لضمان سحق ثورة أولاد زيد، كما نجح في حمل السلطان على إقحام عامل آسفي طرفا في حرب أولاد زيد.
1- فقد نكث ثوار أولاد زيد عهد الصلح بعد شهر واحد من عمره(79)، وعادوا إلى مقاتلة قائدهم ، الذي لم يسعه أمام حربهم الاستنزافية إلا أن يكاتب السلطان ويطلب إليه تحقيق ثلاث مطالب يمكن اعتبارها لوجستية أولها حجز أملاك أولاد زيد بآسفي، وثانيها استنهاض عمال دكالة لدعمه، وثالثها بيعه أسلحة وذخائر يؤدي ثمنها لاحقا ؛ فأجابه السلطان