1 نظمُ الدرر والّلآلي في ترجمة أبي شعيب الدكالي الثلاثاء أكتوبر 23, 2012 8:54 am
trigui
عضو نشيط
للأستاذ محمد عز الدين المعيار الإدريسي
أستاذ بكلية اللغة العربية بمراكش
مقدمة:
على الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود من الزمن على وفاة شيخ الحديث، وحافظ المغرب الكبير، العلامة أبي شعيب الدكالي، فإن ترجمته لا تزال موزعة بين عدة مصادر ومراجع، جزى الله أصحابها، عما بذلوه فيها من حفاظ على أخبار هذا الشيخ الجليل، وعلى نتف من آثاره.
لهذه الاعتبارات الآنفة الذكر، تأتي هذه المساهمة المتواضعة، لتنبي ترجمة متكاملة، لأبي شعيب الدكالي، وفي تسلسل وانسجام بين مراحل حياته، مبرزة دوره الطلائعي في تنشيط الحركة العلمية بالمغرب، أوائل القرن الميلادي الجاري، وما كان لدعوة السلفية من آثار محمودة على الحركة الوطنية، التي كان جل روادها الأوائل من تلامذة أبي شعيب الدكالي.
وبعد، فإن هذه الدراسة تتألف من قسمين أو محورين هما:
○ المحور الأول :
* شخصية أبي شعيب الدكالي وحياته:
تظافرت عدة عوامل من أجل تكوين شخصية هذا الرجل الظاهرة - في وقته- من خصائص ذاتية أصيلة فيه، إلى عوامل خارجية طرأت عليه بحكم الظروف المختلفة المحيطة به.
وبين هذه العوامل وتلك الخصائص عاش أبو شعيب الدكالي في وعي تام وانسجام ووئام بين الأنا والعالم.
فهو ابن طبقة كانت تشكل الغالبية العظمى من سكان المغرب، ينحدر من أصول استوطنت قرية أولاد عمرو، بدوار الصديقات قرب مدينة الغربية بدكالة.([1])
بيتهم بيت علم وفضل وصلاح، ينتحلون الطريقة الدرقاوية، ويقومون بها([2])؛ جل صغارهم، فضلا عن كبارهم، يحفظون الحكم العطائية، لا يدعون نسبا، وربما ضربوا أطفالهم على ادعائه([3])، وكان شعارهم في ذلك قول ابن عطاء الله الاسكندري: « ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه» ([4]).
في هذا الوسط أبصر النور أبو شعيب بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الدكالي الصديقي عام (1295ه / 1878م)، وما إن بلغ سن التعلم حتى استدعى له والده معلما بخصوصه، وكان يوصيه ويقول له: «إنه دعوة أبي ومصداق رؤياي»([5])
وهي كلمة تخفي وراءها تفاصيل، كان لها أكبر الأثر في نفس أبي شعيب، ومن ثم نجده يصدر بها ترجمته، التي نشرها العلامة الراحل عبد الله الجراري، ضمن كتابه عن أبي شعيب الدكالي.([6])
ولم يكد المترجم، يحفظ القرآن الكريم إلا خمسة أجزاء منه، حتى تجرع مرارة اليتم، وعانى من فداحته، لكنه سرعان ما مسح دمعته، وتجلد متفائلا بأول آية من الحزب الذي وصل إليه، وهي قوله تعالى[7])
﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾([8])
وبعد أن حفظ القرآن بتمامه، شرع في حفظ القراءات السبع على أستاذه السيد محمد بن المعاشي ويصادفه في هذه المرحلة من دراسته حادث فظيع، يعكس حقيقة ما كان يسود الكتاتيب القرآنية في ذلك العهد من قسوة وعنف، يتجاوب مع شعار آباء الأطفال وأوليائهم (اقتل وأنا أدفن) أو ( اذبح وأنا أسلخ)، وذلك أنه بينما كان أبو شعيب ذات يوم يقرأ سورة طه، ووصل إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾([9]) قرأها وإنا اخترتك بالكسر، فما كان من أستاذه الذي كان يستمع إليه، إلا أن هوى عليه بلوحته، وشق جبهته عند حاجبه الأيمن، فانفجر الدم من الصبي بغزارة، مما كانت نتيجته أن أغمي عليه.
ولما عولج وأفاق من غيبوبته، وجد عمه وكافله السيد محمد بن عبد العزيز الدكالي يقول لمن حوله: «إن مات في سبيل العلم فلا بأس أن يكون موته موتة شريفة»، ثم التفت إلى الصبي الجريح قائلا: «لو قرأت العربية الفصحى: النحو وتوابعه، لما وقع لك هذا الخطأ الفاحش»([10]).
ويمر هذا الحادث على بشاعته، دون أن يثني أبا شعيب عن هدفه الذي رسمه لحياته، فأقبل على المتون العلمية المتعارفة في ذلك العهد، يلتهمها التهاما، مسجلا في قوة الحفظ وسرعته أرقاما قياسية.
يحفظ الأجرومية في يوم واحد، وألفية ابن مالك في عشرة أيام، ومختصر خليل في أربعة أشهر، ثم يحفظ لكل بيت من الألفية عشرة شواهد عليه من شعر العرب المحتج به عند أربابه، يعرف قائله ومناسبته.([11])
وهذه الحافظة الخارقة أهلته عام (1308ه / 1891م) للفوز في المباراة التي دعا إليها السلطان المولى الحسن الأول بمدينة مراكش، في حفظ مختصر خليل، وزاده على ذلك حفظ القراءات السبع والتمكن من قواعد اللغة العربية وآدابها مع الذكاء الحاد والعارضة القوية في أدب وحسن أخلاق، مما أثار إعجاب السلطان فأمر له على غير العادة المتبعة في مثل هذه الأحوال بصلتين وكسوتين قائلا: «يضاعف لأبي شعيب لصغر سنه، وكبر فنه»([12])
وهي التفاتة ملكية كريمة رفعت من معنويات أبي شعيب، وأكدت له أنه لم يخطئ الاختيار حين اشتغل بالعلم وأخلص له.
ثم بعد مدة من هذا التكريم رحل أبو شعيب الدكالي إلى مدينة فاس، بغية الاغتراف من حياض جامعة القرويين العتيدة، لكن ظروفه لم تساعده على المكوث بها طويلا، ([13]) فتوجه إلى الريف المغربي، وبقي هناك مدة سنتين، يزاول دروس القراءات والحديث والفقه([14]) إلى أن عقد العزم على التوجه إلى المشرق عقب حادث يبدو بسيطا في حجمه وقع له، فتشاءم منه، وهو أنه بينما كان يطالع دروسه في عصامية فريدة، إذا بالشمعة التي يستضيء بنورها تسقط على نسخته من صحيح الإمام البخاري فتحرقها ([15])، فكانت بالنسبة له علامة أخرى، ومن نوع آخر، على أنه لا مناص من متابعة السير نحو الهدف المنشود، وبالتالي الخروج من عزلته هذه إلى آفاق أفضل وأرحب.
وهكذا رحل أبو شعيب إلى القاهرة بمصر عبر البحر سنة (1314ه / 1886م)، فمكث فيها طالبا بالأزهر الشريف مدة ست سنوات([16]) كانت من أخصب سنين حياته الدراسية، أخذ خلالها عن عدد من جلة علماء الأزهر ([17])، يأتي في مقدمتهم عمدته وسنده، سليم البشري شيخ الأزهر، ونقيب المالكية، وإمام الحديث في وقته (ت: 1385ه /1917م)، والذي قال شاعر النيل حافظ إبراهيم في رثائه، مبرزا مكانته وإمامته في علم الحديث خاصة.
أيدري المسلمون بمن أصيبوا وقد واروا سليما في التراب
هوى ركن الحديث فأي ركن لطـلاب الحقيقة والصواب
وما موطا مالك عز البخاري ودع لله تعـزية الكـتـاب
فما في الناطقـين فـم يوفي عزاء الدين في هذا المصاب([18])
ومما حدث لأبي شعيب الدكالي في بداية دراسته بالأزهر، أن أساتذته كادوا يسقطونه في امتحان من الامتحانات بسبب خطه المغربي، الذي تعسرت قراءته على أهل المشرق، لولا تدخل شيخه سليم البشري، الذي استدعاه وقال له: اقرأ علينا ما كتبته، فقرأه، فكانت إجاباته صحيحة، فنجح ونجا من الرسوب.([19])
وبينما كان أبو شعيب يواصل مقامه بأرض الكنانة، مستأنسا بما يلقى من دروس بالأزهر، متجاوبا مع الحركة الإصلاحية، التي كان يقودها الإمام محمد عبده، إذا بأمير مكة الشريف عون الرفيق Z
يبعث إلى مشيخة الأزهر، طالبا منهم أن يوجهوا إليه عالما متضلعا ليكون بجانبه، فلم يكن ذلك العالم سوى أبي شعيب الدكالي، الذي قصد أم القرى فنزل بدار هناك منحت له بالقشاشية، ثم قام من غده يمارس وظائفه التي أسندت إليه، من دروس علمية، وخطابة في الحرم المكي، إلى الإفتاء على المذاهب الأربعة، فاشتهر أمره، وذاع صيته.([20])
وفي هذه الأثناء أكمل نصف دينه بالاقتران بالسيدة جميلة كريمة السيد محمد بدي وزير المالية في حكومة عون الرفيق، وهناك في مكة المكرمة أنجب عددا من أولاده، وفي طليعتهم العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمان الدكالي.([21])
وخلال هذه المجاورة للبيت العتيق أجازه عدد من علماء المسلمين الوافدين على بيت الله الحرام، من اليمن والشام والعراق والهند([22])، فتم له بذلك ما لم يجتمع لغيره، وغدا بحق وجدارة أوحد عصره، وأعجوبة زمانه.
وفي الوقت الذي بدأ فيه المشرق يستفيد من عالم سلفي شاب، كأبي شعيب الدكالي، كان بلده المغرب أحوج ما يكون إلى مثله، بل إن بعض وزراء السلطان المولى عبد العزيز بعثوا فعلا إلى الأستاذ رشيد رضا يطلبون منه أن يختار لهم رجلا مصلحا جامعا في العلوم الشرعية ومعرفة السياسة والإدارة للاستعانة به، على إقناع السلطان بإصلاح البلاد وفق ما يدعو إليه المنار المرة تلو الأخرى.
ولما أطلع رشيد رضا أستاذه الإمام محمد عبده على ذلك، تاقت نفسه للذهاب إلى المغرب شخصيا، لكنه أيقن أن الأوربيين عامة، والإنجليز خاصة يحسبون لذهابه وإقامته هناك كل حساب، ويحولون دونه بما استطاعوا من الأسباب.
ثم لم يلبث رشيد رضا أن اختار بعد ذلك لهذه المهمة من يقوم بها، لكن الظروف حالت دون إرساله.([23]).
وعلى غفلة من ذلك كله كانت أواصر المودة تتوثق بين الأمير العالم السلفي، المولى عبد الحفيظ خليفة أخيه بمراكش، وبين أبي شعيب الدكالي، الذي كان لا يزال مقيما بمكة المكرمة، لكن صلته ببلاده لم تنقطع، فهو يزورها من حين لآخر.([24])
وعندما اعتلى المولى عبد الحفيظ عرش المغرب ألح على أبي شعيب الذي زاره مهنئا ومبايعا بفاس في العودة النهائية إلى بلاده قائلا له: «لا بد أن يستفيد منك وطنك، والمغرب في حاجة إلى مثلك»([25])
فلبى أبو شعيب نداء ملكه ووطنه وعاد من المشرق بصفة نهائية، بعد أن صفى علاقاته في الحجاز، وأتى بأهله، وكان قد ملك بتلك الربوع الطاهرة أموالا كثيرة من دور وعمارات، فتصدق بأكثرها، ولم يبق إلا هريا بالمدينة لعله لا يزال على ملك ورثته إلى الآن. ([26])
هكذا عاد أبو شعيب إلى وطنه المغرب عام (1328ه / 1910م)، فأسند إليه منصب القضاء بمدينة مراكش، ([27]) في وقت كانت الاضطرابات على أشدها بالمغرب.
وقد شهد المترجم له دخول أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين إلى مراكش، بل وقعت بينه من جهة، وبين خليفة الهيبة أخيه مربيه ربه، وقاضيه ابن عبد العزيز من جهة ثانية، محاورة طويلة أفحمهما فيها، مما جعل الهيبة يخرج من مخبئه الذي كان يتابع منه المحاورة، وهو يقول عن أبي شعيب إنه فكراش، أي شجاع إلى قصة طويلة سجلها بحذافيرها مؤرخ مراكش الراحل القاضي العباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام.([28])
وبعد توقيع عقد الحماية الفرنسية وتنازل السلطان مولاي عبد الحفيظ عن العرش لصنوه مولاي يوسف، تم تعيين أبي شعيب الدكالي وزيرا للعدلية والمعارف، ثم أضيف إليه الاستيناف فيما بعد([29])، وظل في منصبه هذا مثالا للاستقامة والنزاهة إلى أن قدم استعفاءه منه عام 1342ه متعللا بالمرض، وإن كان السبب الحقيقي هو ما كان يجده من عراقيل ومعارضة في ممارسة عمله من طرف بعض خصومه السياسيين بالإضافة إلى ما كان يقوم به المستعمر الغاشم من أدوار دنيئة لعزله من منصبه انتقاما من حريته المطبوعة، وهو الذي كان يكره المستعمرين ويلقنهم الدرس تلو الآخر في مناسبات شتى، وبصرامة وحدة، مما لا يتسع المجال لإيراده.([30])
ثم تفرغ للتدريس والدعوة إلى الإصلاح، إلى أن لقي ربه العالي عام (1360ه / 1937م)، ودفن بضريح الولي الصالح مولاي المكي بحي الجزاء بالرباط.
المحور الثاني:
* دروس أبي شعيب الدكالي ودعوته:
كانت الثقافة السائدة إذ ذاك في العالم العربي عامة وفي المغرب خاصة، منغلقة على مجموعة من المتون والمختصرات والحواشي، وقلما تهتم بكتب الأقدمين أو ترجع إليها، ولم يكن من حسنة للدراسة في ذلك العهد سوى اهتمامها بحفظ القرآن الكريم وبعض الأمهات التي يفتتح بها الطالب الناشئ حياته العلمية، لكنه كان غالبا ما ينتهي عندها، فيظل طوال حياته يدور حولها، وقد يقضي أحدهم عشرين عاما من المواظبة على الدرس والتحصيل، ثم تكون الحصيلة آخر المطاف النحو والفقه فقط ([31])، كما ورد على لسان (نصير القديم) في القصيدة التي نظمها شاعر الحمراء عقب الإصلاحات التي عرفتها القرويين، وابن يوسف سنة 1939م.
وكان القرآن الكريم لا يجد من يفسره للناس، فيكشف عما يحمله من وعي ونور.
أما السنة النبوية، فقد ضعف تدريسها، حتى غدت عبارة عن نصوص مقدسة، تتلى للتبرك، بعيدا عن فهم ما تحمله تحتها من بيان وإشراق.
وعلى الرغم من كثرة المشتغلين في ذلك العهد بالفقه وأصوله، فإنه لم يكن منهم من يستطيع أن يرجع فرعا إلى أصله، أو يبحث عن دليله! بل كانوا يقولون دون خجل أو استحياء، «نحن مقلدون لا يلزمنا النظر في الكتاب والسنة»([32])، أو « نحن خليليون، إن دخل خليل الجنة دخلناها معه، وإن دخل النار دخلناها معه»([33]).
في مثل هذه الظروف، ظهر أبو شعيب الدكالي، فلم تعقه وظائفه السامية التي تقلدها، أو فلاحته الواسعة([34])، التي اكتسبها عن أداء رسالته العلمية، ودعوته الإصلاحية، بل كان لا يجد نشاطه إلا في ذلك.
ومن ثم لم تخل جهة من جهات المغرب لم يلق فيها دروسه، وينشر دعوته، خاصة في العواصم التاريخية الكبرى كالرباط، ومراكش، وفاس، بل ألقى دروسه أيضا في عدد من جهات الوطن العربي، وفي أهم مراكز الإشعاع الديني والفكري فيه، كالحرم المكي بالديار المقدسة، والأزهر الشريف بأرض الكنانة، وجامعة الزيتونة بتونس الخضراء ([35])، وكان التوفيق حليفه في كل درس يلقيه، أو معركة يخوضها ضد من سخرهم الاستعمار من خرافيين ودجالين لتشويه الدين الإسلامي، ولتبرير بقائهم بالمغرب.
لقد كانت هذه الدروس بمثابة ثورة عارمة على المناهج العتيقة السائدة في التعليم العربي الإسلامي في ذلك العهد، إذ قام أبو شعيب يدعو إلى الاتصال المباشر بكتب الأقدمين، وإلى نبذ مؤلفات عهود الركود والتخلف، وإلى إعمال العقل في فهم النصوص ومناقشتها، معطيا أنصع الأمثلة وأروعها بما كان يقرره مع طلبته من كتب في شتى مجالات المعرفة، وبما كان يقدمه من فهم ثاقب لقضاياها، مما لم تكن الدراسة تعرفه في ذلك التاريخ.
وطالما التقت في الدرس الواحد من دروسه كل المعارف والعلوم الإسلامية، في تعايش وتعاون، من أجل إبراز معانيه وتقريب أبعاده ومراميه، من قراءات وناسخ ومنسوخ، وغريب، وإعراب، وأسانيد وتراجم ومصطلح، وفقه وتصوف([36]) وبلاغة ونحو وصرف وشعر، إلى غير ذلك.([37])
ومما كان يسد الباب أمام خصوم أبي شعيب وحساده تفوقه وسموقه في الفضاء الذي كانوا يحلقون في مجاله، إذ كان يختم دروسه، خاصة الحديثية منها، باستنباط الأحكام الفقهية منها، ثم يعادل بينها وبين مختصر خليل، ويحكي الخلاف العالي، وكان في كثير من الأحيان يقوم بدور مناظرة مفروضة بين المالكية وغيرهم، يحتج فيها لكل فريق، وتنتهي غالبا بانتصار المالكية.([38])
ومن ثم يبدو أنه لو تيسر لرشيد رضا أن يرسل إلى المغرب عالما يدعو إلى السلفية لفشل الفشل الذريع، ولأفحمه فقهاء المغرب، إن لم يجهلوه، فلم يكن لها إذن سوى أبي شعيب الدكالي، الذي تجمعت فيه كل المؤهلات الكفيلة بالنجاح في هذه المأمورية الصعبة.
وهكذا أصبح أبو شعيب بعلمه الغزير وحفظه الخارق، وذكائه الحاد، وشخصيته الجذابة، من جمال الصورة، وحسن السمت، إلى روعة الإلقاء في لهجة بدوية، ذات نبرة مشرقية أخاذة، العالم السلفي الذي تشد إليه الرحال.
وتصل أصداء هذه الدروس إلى كثير من الناس، فيرتابون في أمرها، بين مهاجم لا يتورع عن إيذاء الشيخ لذاته، لا لعلمه وفضله ([39])، وبين منصف يريد التأكد من حقيقة ما يسمع.
ومن هؤلاء، قرين أبي شعيب وبلديه، العلامة الكبير الشيخ محمد الرافعي، الذي حضر دروسه، فرأى عن كثب تبحره وشموخه، فلم يتمالك أن صارحه بشعوره الصادق قائلا: « الآن آمنت، وزال كل ما كان يخامرني من شكوك في علمكم، واطلاعكم الواسع، حفظكم الله وأبقاكم».([40])
ومنهم العلامة الكبير الشيخ أحمد بن الخياط الزكاري، الذي سمع دروس أبي شعيب وحضرها بمجلس السلطان، المولى عبد الحفيظ، فلم يتمالك هو الآخر أن قال: «ليتني كنت جدعا»، ثم طلب من الشيخ أن يجيزه فأجازه».([41])
ولهذه المكانة العلمية الرفيعة، ظل أبو شعيب يحظى بالرئاسة العلمية في الدروس الحديثية السلطانية، طوال أيام المولى عبد الحفيظ، وصنوه المولى يوسف، ثم أوائل عهد جلالة المغفور له محمد الخامس، ([42]) وبهذه المكانة العلمية أيضا ظل أبو شعيب النجم الثاقب، الذي يشد انتباه طلبة العلم، ويروي ظمأهم، يردون عليه خماصا، ويصدرون عنه بطانا.
وقد كان لمدينة مراكش شرف السبق في هذا الباب، إذ أن أول درس ألقاه الشيخ أبو شعيب، إثر أول مرة رجع فيها من المشرق عام 1321ه، كان في مسجد الشرفاء بالمواسين، افتتح فيه موطأ الإمام مالك، حضره جمهور غفير من الناس من سائر الطبقات، ومختلف الأعمار والأقدار.([43])
ثم توالت زياراته لمراكش، ودروسه بها، وفي كل مرة كانت تلقى نفس الإقبال وتترك نفس الصدى.
فهذا العلامة محمد المختار السوسي، كان في بداية دراسته بابن يوسف بمراكش، غارقا في أدبه وتصوفه، لا يكاد يلتفت إلى غيرهما، حتى إذا طلع السعد بطلوع أبي شعيب الدكالي، تحولت حياته من حال إلى حال، وفي ذلك يقول:
«وبينما أنا أسبح فيما أنا فيه، إذ جاء الشيخ أبو شعيب الدكالي عام 1342ه إلى مراكش مع السلطان مولاي يوسف، فتجددت آراء في مجالسه، واستحدثت أفكار، وانتسفت معتقدات، فدبت تلك الحياة المذكورة في أجلى مظاهرها، فصار كل شيء مر يستحلى في تطلب المعارف، فقلت: إما المعارف وإما القبر»([44])
وظلت هذه المدينة متجاوبة مع أبي شعيب في دروسه ودعوته، يحتفى به أهلها كلما حل بها، ويرددون أفكاره ويتغنون بها.
يقول الشاعر المبدع مولاي أحمد النور في قصيدة حَيا بها الشيخ أبا شعيب في الحفل الذي أقامه له طلبة ابن يوسف بمراكش يوم 26 ذي الحجة الموافق لعام 1934م.
أخضعت طوع جهودك الأياما
وبرزت تحمي العلم والإسلاما
تنحي على جيش الأضاليل التي
كادت يلازم شرها الأقـواما
وتكر في الشبهات كـرة باسل
فتـبدد الشبهات والأوهـاما
استحوذت حينا على أجيالـنا
واستحكمت في قطرنا استحكاما([45])
إلى أن يقول:
تدري صنيعتك المنابر مصلحا
ومفسـرا ومحـدثا وهمـاما
كم نرتجي هذي الزيارة لو تطو
ل ولا تحاكي الطيف زار لماما
تصبـو له الأرواح إلا أنـها
مثل الربيع تجيء عاما عاما ([46])
ثم يقول الشاعر عبد القادر حسن العاصمي في قصيدة حيَّا بها هو الآخر الشيخ أبا شعيب الدكالي، في الاحتفال الذي أقيم له، لما زار مراكش في عيد الفطر سنة 1354ه.
سدت يا علم في جميع البلاد في أوربا وفي شعوب الضاد([47])
ثم يقول :
ما أقمنا احتفالـنا هـذا إلا
*
لمثال من مظهر منك بادي
يسحر الناس بالفصاحة والفط
*
نة والمجد والعلا والسداد
ويرى العالمون فيه مثـالا
*
صادقا من مفاخر الأجداد([48])
إلى أن يقول:
فتراهم قد أحدقوا به طرا
*
كاجتماع الأنام يوم المعاد
كلهم محدق ومصغ لما يلـ
*
قيه من حكمة ومن إرشاد
حسبهم ذاك شاغلا وإذا ما
*
خرجوا فالجلال ملء الفؤاد ([49])
ويبدو أن شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، الذي كان أجازه الشيخ أبو شعيب ([50])، قد بلور كثيرا من الأفكار السلفية في شعره.
ففي قصيدته: « الله في البؤساء» يكاد يستوحي معانيه، بل وألفاظه، من المعين الذي اغترف منه أبو شعيب خطبته التي ألقاها بالرباط عام 1913م، في الحث على مساعدة الفقراء والمساكين، ومنها قوله:
«فهل من مفضال واسع النوال، يصدق منه المقال الفعال، يجود بما سمحت به همته، فيزيل عن الفقراء الضراء...»([51])
ويقول شاعر الحمراء بعد ذلك بسنوات (عام 1934م).
كيف المآل إذ تكـون الحال
*
بالجوع تقضي نسوة ورجال
هذا الضعيف أمامكم مسترحما
*
يرجو النوال فهل لديك نوال([52])
أما قصيدته: « إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» التي قالها سنة 1932م، فمن صميم الدعوة الإصلاحية، التي نادى بها أبو شعيب الدكالي، وهذه أمثلة منها.
ومالي هذي العوائد أصبحت
*
وأضرارها فينا تزيد وتعظـم
فهل من دواء للعـوائد إنـها
*
إذا تركت في الجسم لا شك تعدم
أشدخ رؤوس كلما حان موسم
*
ونهـش أفاع نهشـهن محـرم
أمن شرف الإنسان يدخل بيته
*
عواهر في تنهاقها تتنغم ([53])
وندع مراكش، وما كان لها من تجاوب مع دروس أبي شعيب ودعوته، ونرحل إلى فاس، لنلقي بعض الأضواء عما كان لدروسه ودعوته من صدى هناك، فنجد أن أول دروسه بفاس كان عام 1323ه، عندما افتتح صحيح الإمام البخاري بجامع القرويين فضاقت رحابه بالحاضرين، الذين رأوا من علمه الأعاجيب.([54])
وتكرر اللقاء عام 1325ه بعد اعتلاء السلطان مولاي عبد الحفيظ عرش المغرب.([55])
ثم توالت زيارات الشيخ إلى فاس، وتخرجت على يديه أفواج من العلماء يأتي في مقدمتهم، سنده في حياته، وحامل اللواء من بعده، شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، موقظ الهمم، كما كان يسميه محمد المختار السوسي.([56])
ونعود من فاس إلى الرباط، حيث حط أبو شعيب الدكالي الرحال، منذ أن عين وزيرا إلى أن لقي ربه، فنجد العاصمة في أعراس علمية دائمة وحركة سلفية نشيطة، قد استهوت عالما فحلا كمحمد المدني ابن الحسني، فثنى ركبته على علمه وفضله ليواظب على حضور دروس أبي شعيب في الحديث خاصة، طوال مدة تزيد على العشرين عاما.([57])
ومثل حاله، كان حال عدد من نوابغ الطلاب كالعلامة المفكر محمد السائح، والعلامة الشاعر محمد بن اليمني الناصري، والعلامة المؤرخ عبد الله الجراري، والعلامة الحافظ شيخنا ا لرحالي الفاروق. الذي لازمه بالرباط ما يقرب من ثلاثة أعوام، بعد أن أخذ عنه في كل من مراكش وفاس، رحمهم الله جميعا، وكأستاذنا العلامة الشيخ محمد المكي الناصري، أمد الله في عمره، الذي قال مخاطبا الشيخ أبا شعيب الدكالي ليلة ختمه لسنن ابن ماجه بالزاوية الناصرية:
أسست للإصلاح أسا ثابـتا
*
وفتحت منه كل باب موصد
أظهرت للناس الحقيقة جهرة
*
لم تخش في دعواك قول مفند([58])
مشيرا إلى كتابه الذي أسماه «إظهار الحقيقة وعلاج الخليفة»([59])، دافع فيه عن السنة بقوة، وهاجم دون هوادة ما كان شائعا وقتئذ من بدع وخرافات، مما أثار ضجة هائلة في ذلك العهد، مما لا نريد الخوض فيه، لأن الحملة ضد الزوايا والطرقيين سرعان ما توقفت، استجابة لنصيحة الأمير شكيب أرسلان، الذي كان من زعماء الحركة الوطنية إذ ذاك، بإيقاف هذه الحملات، والاهتمام بمقاومة العدو الحقيقي(الاستعمار). وكان من أبرز هؤلاء الزعماء الرواد علال الفاسي، وعبد الله كنون، وأحمد بلافريج، رحمهم الله تعالى، ومحمد المكي الناصري، أمد الله في عمره.([60])
وبعد؛ فمن هؤلاء الطلبة جميعا وغيرهم ممن أخذوا عن أبي شعيب في جهات كثيرة من المغرب تكونت الطليعة الأولى من السلفيين، الذين قادوا الحركة الوطنية، التي برزت في صورتها السياسية ابتداء من صدور الظهير البربري في10 ماي 1930م.
[1] ) المحدث أبو شعيب الدكالي تأليف عبد الله الجراري (مطبعة النجاح الجديدة) الدار البيضاء 1396ه /1976م.
[2] ) معجم الشيوخ المسمى: «رياض الجنة» أو «المدهش المطرب» : تأليف عبد الحفيظ الفاسي، 2/ 142.
[3] ) المحدث الحافظ، 17.
[4] ) الحكم العطائية، 91.
[5] ) المحدث الحافظ، 17.
[6] ) نفسه ، 16 18.
[7] )قبيلبة زعير قديما وحديث: تأليف محمد بن عمر ابن سودة التاودي 2/221.(مطبعة دار النشر المغربية 1986م).
[8] ) سورة آل عمران ، الآية 171.
[9] ) سورة طه : الآية 13.
[10] ) قبيلة زعير 2/222.
[11] ) نفسه والجزء والصفحة.
[12] ) المحدث الحافظ 18 قبيلة زعير 2/222.
[13] ) قبيفة زعير 2*223.
[14] ) المحدث الحافظ، 18.
[15] ) قبيلة زعير 2/223.
[16] ) الأعلام لخير الدين الزركلي: 3/167، وانظر (أعلام المغرب العربي) لعبد الوهاب بن منصور 198.
[17] ) أنظر المحدث الحافظ 18.
[18] ) مجلة الأزهر (المصرية) ج10/ السنة51، ص: 2286.
[19] ) قبيبة زعير 2/223.
[20] ) قبيلة زعير 2/223. المحدث الحافظ 9.
[21] ) قبيلة زعير 2/224.
[22] ) المحدث الحافظ ، 18.
[23] ) تاريخ الإسناد: الإمام محمد عبده ، تأليف رشيد رضا 1/870.
[24] ) أنظر (المحدث الحافظ) في مواضع شتى.
[25] ) قبيلة زعير 2/224.
[26] ) نفسه والجزء والصفحة.
[27] ) المحدث الحافظ 10.
[28] ) الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تأليف : القاضي العباسي بن إبراهيم المراكشي 2/479. (المطبعة الملكية الرباط 1974).
[29] ) المحدث الحافظ 10.
[30] ) أنظر (المحدث الحافظ) 121/ قبيلة زعير 2/232.
[31] ) شاعر الحمراء في الغربال، تأليف: أحمد الشرقاوي إقبال/ 196 مطبعة الجامعة الدار البيضاء.
[32] ) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، تأليف د. محمد البهي / 174.( دار الفكر بيروت/ ط6، 1973).
[33] ) دعوة الحق، ع4/ س:14 ، ص: .
[34] ) أنظر قبيلة زعير: 2/228 235.
[35] ) المحدث الحافظ 10.
[36] ) أنطر الإعلام للمراكشي: 2/479.
[37] ) أنظر (المحدث الحافظ) في مواضع شتى.
[38] ) دعوة الحق، ع2، س 12/ ص: 39.
[39] ) المحدث الحافظ: 33 / 107.
[40] ) نفسه 14.
[41] ) قبيلة زعير 2/219.
[42] ) المحدث الحافظ 10.
[43] ) نفسه 131.
[44] ) الإلغيات: 2/111 114.
[45] ) من شعر أحمد النور المراكشي: جمع وتعليق أحمد متفكر 64( المطبعة الوطنية) مراكش 1990م.
[46] ) نفسه 65.
[47] ) أحلام الفجر ، تأليف: عبد القادر حسن( الطبعة الأولى)، مطبعة التقدم الإسلامية بالحمراء مراكش 1355ه/1934م.
[48] ) نفسه 88.
[49] ) نفسه 89.
[50] ) أنظر نص إجازته في (شاعر الحمراء في الغربال: 14).
[51] ) المحدث الحافظ : 120.
[52] ) شاعر الحمراء في الغربال.
[53] ) نفسه.
[54] ) أنظر لكلمة محمد السراج في (الكتاب الذهبي لجامعة القرويين) : 148 157.
[55] ) نفسه.
[56] ) الألغيات 2/226.
[57] ) من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا، تأليف عبد الله الجراري: 2/202.
[58] ) المحدث الحافظ 90.
[59] ) أنظر الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج: 2/77. (مصورة فضالة: 1979م). المناهل، ع34، ص: 325.
[60] ) مجلة(الكرمل)، ع:11/ ص144.
أستاذ بكلية اللغة العربية بمراكش
مقدمة:
على الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود من الزمن على وفاة شيخ الحديث، وحافظ المغرب الكبير، العلامة أبي شعيب الدكالي، فإن ترجمته لا تزال موزعة بين عدة مصادر ومراجع، جزى الله أصحابها، عما بذلوه فيها من حفاظ على أخبار هذا الشيخ الجليل، وعلى نتف من آثاره.
لهذه الاعتبارات الآنفة الذكر، تأتي هذه المساهمة المتواضعة، لتنبي ترجمة متكاملة، لأبي شعيب الدكالي، وفي تسلسل وانسجام بين مراحل حياته، مبرزة دوره الطلائعي في تنشيط الحركة العلمية بالمغرب، أوائل القرن الميلادي الجاري، وما كان لدعوة السلفية من آثار محمودة على الحركة الوطنية، التي كان جل روادها الأوائل من تلامذة أبي شعيب الدكالي.
وبعد، فإن هذه الدراسة تتألف من قسمين أو محورين هما:
○ المحور الأول :
* شخصية أبي شعيب الدكالي وحياته:
تظافرت عدة عوامل من أجل تكوين شخصية هذا الرجل الظاهرة - في وقته- من خصائص ذاتية أصيلة فيه، إلى عوامل خارجية طرأت عليه بحكم الظروف المختلفة المحيطة به.
وبين هذه العوامل وتلك الخصائص عاش أبو شعيب الدكالي في وعي تام وانسجام ووئام بين الأنا والعالم.
فهو ابن طبقة كانت تشكل الغالبية العظمى من سكان المغرب، ينحدر من أصول استوطنت قرية أولاد عمرو، بدوار الصديقات قرب مدينة الغربية بدكالة.([1])
بيتهم بيت علم وفضل وصلاح، ينتحلون الطريقة الدرقاوية، ويقومون بها([2])؛ جل صغارهم، فضلا عن كبارهم، يحفظون الحكم العطائية، لا يدعون نسبا، وربما ضربوا أطفالهم على ادعائه([3])، وكان شعارهم في ذلك قول ابن عطاء الله الاسكندري: « ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه» ([4]).
في هذا الوسط أبصر النور أبو شعيب بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الدكالي الصديقي عام (1295ه / 1878م)، وما إن بلغ سن التعلم حتى استدعى له والده معلما بخصوصه، وكان يوصيه ويقول له: «إنه دعوة أبي ومصداق رؤياي»([5])
وهي كلمة تخفي وراءها تفاصيل، كان لها أكبر الأثر في نفس أبي شعيب، ومن ثم نجده يصدر بها ترجمته، التي نشرها العلامة الراحل عبد الله الجراري، ضمن كتابه عن أبي شعيب الدكالي.([6])
ولم يكد المترجم، يحفظ القرآن الكريم إلا خمسة أجزاء منه، حتى تجرع مرارة اليتم، وعانى من فداحته، لكنه سرعان ما مسح دمعته، وتجلد متفائلا بأول آية من الحزب الذي وصل إليه، وهي قوله تعالى[7])
﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾([8])
وبعد أن حفظ القرآن بتمامه، شرع في حفظ القراءات السبع على أستاذه السيد محمد بن المعاشي ويصادفه في هذه المرحلة من دراسته حادث فظيع، يعكس حقيقة ما كان يسود الكتاتيب القرآنية في ذلك العهد من قسوة وعنف، يتجاوب مع شعار آباء الأطفال وأوليائهم (اقتل وأنا أدفن) أو ( اذبح وأنا أسلخ)، وذلك أنه بينما كان أبو شعيب ذات يوم يقرأ سورة طه، ووصل إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾([9]) قرأها وإنا اخترتك بالكسر، فما كان من أستاذه الذي كان يستمع إليه، إلا أن هوى عليه بلوحته، وشق جبهته عند حاجبه الأيمن، فانفجر الدم من الصبي بغزارة، مما كانت نتيجته أن أغمي عليه.
ولما عولج وأفاق من غيبوبته، وجد عمه وكافله السيد محمد بن عبد العزيز الدكالي يقول لمن حوله: «إن مات في سبيل العلم فلا بأس أن يكون موته موتة شريفة»، ثم التفت إلى الصبي الجريح قائلا: «لو قرأت العربية الفصحى: النحو وتوابعه، لما وقع لك هذا الخطأ الفاحش»([10]).
ويمر هذا الحادث على بشاعته، دون أن يثني أبا شعيب عن هدفه الذي رسمه لحياته، فأقبل على المتون العلمية المتعارفة في ذلك العهد، يلتهمها التهاما، مسجلا في قوة الحفظ وسرعته أرقاما قياسية.
يحفظ الأجرومية في يوم واحد، وألفية ابن مالك في عشرة أيام، ومختصر خليل في أربعة أشهر، ثم يحفظ لكل بيت من الألفية عشرة شواهد عليه من شعر العرب المحتج به عند أربابه، يعرف قائله ومناسبته.([11])
وهذه الحافظة الخارقة أهلته عام (1308ه / 1891م) للفوز في المباراة التي دعا إليها السلطان المولى الحسن الأول بمدينة مراكش، في حفظ مختصر خليل، وزاده على ذلك حفظ القراءات السبع والتمكن من قواعد اللغة العربية وآدابها مع الذكاء الحاد والعارضة القوية في أدب وحسن أخلاق، مما أثار إعجاب السلطان فأمر له على غير العادة المتبعة في مثل هذه الأحوال بصلتين وكسوتين قائلا: «يضاعف لأبي شعيب لصغر سنه، وكبر فنه»([12])
وهي التفاتة ملكية كريمة رفعت من معنويات أبي شعيب، وأكدت له أنه لم يخطئ الاختيار حين اشتغل بالعلم وأخلص له.
ثم بعد مدة من هذا التكريم رحل أبو شعيب الدكالي إلى مدينة فاس، بغية الاغتراف من حياض جامعة القرويين العتيدة، لكن ظروفه لم تساعده على المكوث بها طويلا، ([13]) فتوجه إلى الريف المغربي، وبقي هناك مدة سنتين، يزاول دروس القراءات والحديث والفقه([14]) إلى أن عقد العزم على التوجه إلى المشرق عقب حادث يبدو بسيطا في حجمه وقع له، فتشاءم منه، وهو أنه بينما كان يطالع دروسه في عصامية فريدة، إذا بالشمعة التي يستضيء بنورها تسقط على نسخته من صحيح الإمام البخاري فتحرقها ([15])، فكانت بالنسبة له علامة أخرى، ومن نوع آخر، على أنه لا مناص من متابعة السير نحو الهدف المنشود، وبالتالي الخروج من عزلته هذه إلى آفاق أفضل وأرحب.
وهكذا رحل أبو شعيب إلى القاهرة بمصر عبر البحر سنة (1314ه / 1886م)، فمكث فيها طالبا بالأزهر الشريف مدة ست سنوات([16]) كانت من أخصب سنين حياته الدراسية، أخذ خلالها عن عدد من جلة علماء الأزهر ([17])، يأتي في مقدمتهم عمدته وسنده، سليم البشري شيخ الأزهر، ونقيب المالكية، وإمام الحديث في وقته (ت: 1385ه /1917م)، والذي قال شاعر النيل حافظ إبراهيم في رثائه، مبرزا مكانته وإمامته في علم الحديث خاصة.
أيدري المسلمون بمن أصيبوا وقد واروا سليما في التراب
هوى ركن الحديث فأي ركن لطـلاب الحقيقة والصواب
وما موطا مالك عز البخاري ودع لله تعـزية الكـتـاب
فما في الناطقـين فـم يوفي عزاء الدين في هذا المصاب([18])
ومما حدث لأبي شعيب الدكالي في بداية دراسته بالأزهر، أن أساتذته كادوا يسقطونه في امتحان من الامتحانات بسبب خطه المغربي، الذي تعسرت قراءته على أهل المشرق، لولا تدخل شيخه سليم البشري، الذي استدعاه وقال له: اقرأ علينا ما كتبته، فقرأه، فكانت إجاباته صحيحة، فنجح ونجا من الرسوب.([19])
وبينما كان أبو شعيب يواصل مقامه بأرض الكنانة، مستأنسا بما يلقى من دروس بالأزهر، متجاوبا مع الحركة الإصلاحية، التي كان يقودها الإمام محمد عبده، إذا بأمير مكة الشريف عون الرفيق Z
يبعث إلى مشيخة الأزهر، طالبا منهم أن يوجهوا إليه عالما متضلعا ليكون بجانبه، فلم يكن ذلك العالم سوى أبي شعيب الدكالي، الذي قصد أم القرى فنزل بدار هناك منحت له بالقشاشية، ثم قام من غده يمارس وظائفه التي أسندت إليه، من دروس علمية، وخطابة في الحرم المكي، إلى الإفتاء على المذاهب الأربعة، فاشتهر أمره، وذاع صيته.([20])
وفي هذه الأثناء أكمل نصف دينه بالاقتران بالسيدة جميلة كريمة السيد محمد بدي وزير المالية في حكومة عون الرفيق، وهناك في مكة المكرمة أنجب عددا من أولاده، وفي طليعتهم العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمان الدكالي.([21])
وخلال هذه المجاورة للبيت العتيق أجازه عدد من علماء المسلمين الوافدين على بيت الله الحرام، من اليمن والشام والعراق والهند([22])، فتم له بذلك ما لم يجتمع لغيره، وغدا بحق وجدارة أوحد عصره، وأعجوبة زمانه.
وفي الوقت الذي بدأ فيه المشرق يستفيد من عالم سلفي شاب، كأبي شعيب الدكالي، كان بلده المغرب أحوج ما يكون إلى مثله، بل إن بعض وزراء السلطان المولى عبد العزيز بعثوا فعلا إلى الأستاذ رشيد رضا يطلبون منه أن يختار لهم رجلا مصلحا جامعا في العلوم الشرعية ومعرفة السياسة والإدارة للاستعانة به، على إقناع السلطان بإصلاح البلاد وفق ما يدعو إليه المنار المرة تلو الأخرى.
ولما أطلع رشيد رضا أستاذه الإمام محمد عبده على ذلك، تاقت نفسه للذهاب إلى المغرب شخصيا، لكنه أيقن أن الأوربيين عامة، والإنجليز خاصة يحسبون لذهابه وإقامته هناك كل حساب، ويحولون دونه بما استطاعوا من الأسباب.
ثم لم يلبث رشيد رضا أن اختار بعد ذلك لهذه المهمة من يقوم بها، لكن الظروف حالت دون إرساله.([23]).
وعلى غفلة من ذلك كله كانت أواصر المودة تتوثق بين الأمير العالم السلفي، المولى عبد الحفيظ خليفة أخيه بمراكش، وبين أبي شعيب الدكالي، الذي كان لا يزال مقيما بمكة المكرمة، لكن صلته ببلاده لم تنقطع، فهو يزورها من حين لآخر.([24])
وعندما اعتلى المولى عبد الحفيظ عرش المغرب ألح على أبي شعيب الذي زاره مهنئا ومبايعا بفاس في العودة النهائية إلى بلاده قائلا له: «لا بد أن يستفيد منك وطنك، والمغرب في حاجة إلى مثلك»([25])
فلبى أبو شعيب نداء ملكه ووطنه وعاد من المشرق بصفة نهائية، بعد أن صفى علاقاته في الحجاز، وأتى بأهله، وكان قد ملك بتلك الربوع الطاهرة أموالا كثيرة من دور وعمارات، فتصدق بأكثرها، ولم يبق إلا هريا بالمدينة لعله لا يزال على ملك ورثته إلى الآن. ([26])
هكذا عاد أبو شعيب إلى وطنه المغرب عام (1328ه / 1910م)، فأسند إليه منصب القضاء بمدينة مراكش، ([27]) في وقت كانت الاضطرابات على أشدها بالمغرب.
وقد شهد المترجم له دخول أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين إلى مراكش، بل وقعت بينه من جهة، وبين خليفة الهيبة أخيه مربيه ربه، وقاضيه ابن عبد العزيز من جهة ثانية، محاورة طويلة أفحمهما فيها، مما جعل الهيبة يخرج من مخبئه الذي كان يتابع منه المحاورة، وهو يقول عن أبي شعيب إنه فكراش، أي شجاع إلى قصة طويلة سجلها بحذافيرها مؤرخ مراكش الراحل القاضي العباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام.([28])
وبعد توقيع عقد الحماية الفرنسية وتنازل السلطان مولاي عبد الحفيظ عن العرش لصنوه مولاي يوسف، تم تعيين أبي شعيب الدكالي وزيرا للعدلية والمعارف، ثم أضيف إليه الاستيناف فيما بعد([29])، وظل في منصبه هذا مثالا للاستقامة والنزاهة إلى أن قدم استعفاءه منه عام 1342ه متعللا بالمرض، وإن كان السبب الحقيقي هو ما كان يجده من عراقيل ومعارضة في ممارسة عمله من طرف بعض خصومه السياسيين بالإضافة إلى ما كان يقوم به المستعمر الغاشم من أدوار دنيئة لعزله من منصبه انتقاما من حريته المطبوعة، وهو الذي كان يكره المستعمرين ويلقنهم الدرس تلو الآخر في مناسبات شتى، وبصرامة وحدة، مما لا يتسع المجال لإيراده.([30])
ثم تفرغ للتدريس والدعوة إلى الإصلاح، إلى أن لقي ربه العالي عام (1360ه / 1937م)، ودفن بضريح الولي الصالح مولاي المكي بحي الجزاء بالرباط.
المحور الثاني:
* دروس أبي شعيب الدكالي ودعوته:
كانت الثقافة السائدة إذ ذاك في العالم العربي عامة وفي المغرب خاصة، منغلقة على مجموعة من المتون والمختصرات والحواشي، وقلما تهتم بكتب الأقدمين أو ترجع إليها، ولم يكن من حسنة للدراسة في ذلك العهد سوى اهتمامها بحفظ القرآن الكريم وبعض الأمهات التي يفتتح بها الطالب الناشئ حياته العلمية، لكنه كان غالبا ما ينتهي عندها، فيظل طوال حياته يدور حولها، وقد يقضي أحدهم عشرين عاما من المواظبة على الدرس والتحصيل، ثم تكون الحصيلة آخر المطاف النحو والفقه فقط ([31])، كما ورد على لسان (نصير القديم) في القصيدة التي نظمها شاعر الحمراء عقب الإصلاحات التي عرفتها القرويين، وابن يوسف سنة 1939م.
وكان القرآن الكريم لا يجد من يفسره للناس، فيكشف عما يحمله من وعي ونور.
أما السنة النبوية، فقد ضعف تدريسها، حتى غدت عبارة عن نصوص مقدسة، تتلى للتبرك، بعيدا عن فهم ما تحمله تحتها من بيان وإشراق.
وعلى الرغم من كثرة المشتغلين في ذلك العهد بالفقه وأصوله، فإنه لم يكن منهم من يستطيع أن يرجع فرعا إلى أصله، أو يبحث عن دليله! بل كانوا يقولون دون خجل أو استحياء، «نحن مقلدون لا يلزمنا النظر في الكتاب والسنة»([32])، أو « نحن خليليون، إن دخل خليل الجنة دخلناها معه، وإن دخل النار دخلناها معه»([33]).
في مثل هذه الظروف، ظهر أبو شعيب الدكالي، فلم تعقه وظائفه السامية التي تقلدها، أو فلاحته الواسعة([34])، التي اكتسبها عن أداء رسالته العلمية، ودعوته الإصلاحية، بل كان لا يجد نشاطه إلا في ذلك.
ومن ثم لم تخل جهة من جهات المغرب لم يلق فيها دروسه، وينشر دعوته، خاصة في العواصم التاريخية الكبرى كالرباط، ومراكش، وفاس، بل ألقى دروسه أيضا في عدد من جهات الوطن العربي، وفي أهم مراكز الإشعاع الديني والفكري فيه، كالحرم المكي بالديار المقدسة، والأزهر الشريف بأرض الكنانة، وجامعة الزيتونة بتونس الخضراء ([35])، وكان التوفيق حليفه في كل درس يلقيه، أو معركة يخوضها ضد من سخرهم الاستعمار من خرافيين ودجالين لتشويه الدين الإسلامي، ولتبرير بقائهم بالمغرب.
لقد كانت هذه الدروس بمثابة ثورة عارمة على المناهج العتيقة السائدة في التعليم العربي الإسلامي في ذلك العهد، إذ قام أبو شعيب يدعو إلى الاتصال المباشر بكتب الأقدمين، وإلى نبذ مؤلفات عهود الركود والتخلف، وإلى إعمال العقل في فهم النصوص ومناقشتها، معطيا أنصع الأمثلة وأروعها بما كان يقرره مع طلبته من كتب في شتى مجالات المعرفة، وبما كان يقدمه من فهم ثاقب لقضاياها، مما لم تكن الدراسة تعرفه في ذلك التاريخ.
وطالما التقت في الدرس الواحد من دروسه كل المعارف والعلوم الإسلامية، في تعايش وتعاون، من أجل إبراز معانيه وتقريب أبعاده ومراميه، من قراءات وناسخ ومنسوخ، وغريب، وإعراب، وأسانيد وتراجم ومصطلح، وفقه وتصوف([36]) وبلاغة ونحو وصرف وشعر، إلى غير ذلك.([37])
ومما كان يسد الباب أمام خصوم أبي شعيب وحساده تفوقه وسموقه في الفضاء الذي كانوا يحلقون في مجاله، إذ كان يختم دروسه، خاصة الحديثية منها، باستنباط الأحكام الفقهية منها، ثم يعادل بينها وبين مختصر خليل، ويحكي الخلاف العالي، وكان في كثير من الأحيان يقوم بدور مناظرة مفروضة بين المالكية وغيرهم، يحتج فيها لكل فريق، وتنتهي غالبا بانتصار المالكية.([38])
ومن ثم يبدو أنه لو تيسر لرشيد رضا أن يرسل إلى المغرب عالما يدعو إلى السلفية لفشل الفشل الذريع، ولأفحمه فقهاء المغرب، إن لم يجهلوه، فلم يكن لها إذن سوى أبي شعيب الدكالي، الذي تجمعت فيه كل المؤهلات الكفيلة بالنجاح في هذه المأمورية الصعبة.
وهكذا أصبح أبو شعيب بعلمه الغزير وحفظه الخارق، وذكائه الحاد، وشخصيته الجذابة، من جمال الصورة، وحسن السمت، إلى روعة الإلقاء في لهجة بدوية، ذات نبرة مشرقية أخاذة، العالم السلفي الذي تشد إليه الرحال.
وتصل أصداء هذه الدروس إلى كثير من الناس، فيرتابون في أمرها، بين مهاجم لا يتورع عن إيذاء الشيخ لذاته، لا لعلمه وفضله ([39])، وبين منصف يريد التأكد من حقيقة ما يسمع.
ومن هؤلاء، قرين أبي شعيب وبلديه، العلامة الكبير الشيخ محمد الرافعي، الذي حضر دروسه، فرأى عن كثب تبحره وشموخه، فلم يتمالك أن صارحه بشعوره الصادق قائلا: « الآن آمنت، وزال كل ما كان يخامرني من شكوك في علمكم، واطلاعكم الواسع، حفظكم الله وأبقاكم».([40])
ومنهم العلامة الكبير الشيخ أحمد بن الخياط الزكاري، الذي سمع دروس أبي شعيب وحضرها بمجلس السلطان، المولى عبد الحفيظ، فلم يتمالك هو الآخر أن قال: «ليتني كنت جدعا»، ثم طلب من الشيخ أن يجيزه فأجازه».([41])
ولهذه المكانة العلمية الرفيعة، ظل أبو شعيب يحظى بالرئاسة العلمية في الدروس الحديثية السلطانية، طوال أيام المولى عبد الحفيظ، وصنوه المولى يوسف، ثم أوائل عهد جلالة المغفور له محمد الخامس، ([42]) وبهذه المكانة العلمية أيضا ظل أبو شعيب النجم الثاقب، الذي يشد انتباه طلبة العلم، ويروي ظمأهم، يردون عليه خماصا، ويصدرون عنه بطانا.
وقد كان لمدينة مراكش شرف السبق في هذا الباب، إذ أن أول درس ألقاه الشيخ أبو شعيب، إثر أول مرة رجع فيها من المشرق عام 1321ه، كان في مسجد الشرفاء بالمواسين، افتتح فيه موطأ الإمام مالك، حضره جمهور غفير من الناس من سائر الطبقات، ومختلف الأعمار والأقدار.([43])
ثم توالت زياراته لمراكش، ودروسه بها، وفي كل مرة كانت تلقى نفس الإقبال وتترك نفس الصدى.
فهذا العلامة محمد المختار السوسي، كان في بداية دراسته بابن يوسف بمراكش، غارقا في أدبه وتصوفه، لا يكاد يلتفت إلى غيرهما، حتى إذا طلع السعد بطلوع أبي شعيب الدكالي، تحولت حياته من حال إلى حال، وفي ذلك يقول:
«وبينما أنا أسبح فيما أنا فيه، إذ جاء الشيخ أبو شعيب الدكالي عام 1342ه إلى مراكش مع السلطان مولاي يوسف، فتجددت آراء في مجالسه، واستحدثت أفكار، وانتسفت معتقدات، فدبت تلك الحياة المذكورة في أجلى مظاهرها، فصار كل شيء مر يستحلى في تطلب المعارف، فقلت: إما المعارف وإما القبر»([44])
وظلت هذه المدينة متجاوبة مع أبي شعيب في دروسه ودعوته، يحتفى به أهلها كلما حل بها، ويرددون أفكاره ويتغنون بها.
يقول الشاعر المبدع مولاي أحمد النور في قصيدة حَيا بها الشيخ أبا شعيب في الحفل الذي أقامه له طلبة ابن يوسف بمراكش يوم 26 ذي الحجة الموافق لعام 1934م.
أخضعت طوع جهودك الأياما
وبرزت تحمي العلم والإسلاما
تنحي على جيش الأضاليل التي
كادت يلازم شرها الأقـواما
وتكر في الشبهات كـرة باسل
فتـبدد الشبهات والأوهـاما
استحوذت حينا على أجيالـنا
واستحكمت في قطرنا استحكاما([45])
إلى أن يقول:
تدري صنيعتك المنابر مصلحا
ومفسـرا ومحـدثا وهمـاما
كم نرتجي هذي الزيارة لو تطو
ل ولا تحاكي الطيف زار لماما
تصبـو له الأرواح إلا أنـها
مثل الربيع تجيء عاما عاما ([46])
ثم يقول الشاعر عبد القادر حسن العاصمي في قصيدة حيَّا بها هو الآخر الشيخ أبا شعيب الدكالي، في الاحتفال الذي أقيم له، لما زار مراكش في عيد الفطر سنة 1354ه.
سدت يا علم في جميع البلاد في أوربا وفي شعوب الضاد([47])
ثم يقول :
ما أقمنا احتفالـنا هـذا إلا
*
لمثال من مظهر منك بادي
يسحر الناس بالفصاحة والفط
*
نة والمجد والعلا والسداد
ويرى العالمون فيه مثـالا
*
صادقا من مفاخر الأجداد([48])
إلى أن يقول:
فتراهم قد أحدقوا به طرا
*
كاجتماع الأنام يوم المعاد
كلهم محدق ومصغ لما يلـ
*
قيه من حكمة ومن إرشاد
حسبهم ذاك شاغلا وإذا ما
*
خرجوا فالجلال ملء الفؤاد ([49])
ويبدو أن شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، الذي كان أجازه الشيخ أبو شعيب ([50])، قد بلور كثيرا من الأفكار السلفية في شعره.
ففي قصيدته: « الله في البؤساء» يكاد يستوحي معانيه، بل وألفاظه، من المعين الذي اغترف منه أبو شعيب خطبته التي ألقاها بالرباط عام 1913م، في الحث على مساعدة الفقراء والمساكين، ومنها قوله:
«فهل من مفضال واسع النوال، يصدق منه المقال الفعال، يجود بما سمحت به همته، فيزيل عن الفقراء الضراء...»([51])
ويقول شاعر الحمراء بعد ذلك بسنوات (عام 1934م).
كيف المآل إذ تكـون الحال
*
بالجوع تقضي نسوة ورجال
هذا الضعيف أمامكم مسترحما
*
يرجو النوال فهل لديك نوال([52])
أما قصيدته: « إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» التي قالها سنة 1932م، فمن صميم الدعوة الإصلاحية، التي نادى بها أبو شعيب الدكالي، وهذه أمثلة منها.
ومالي هذي العوائد أصبحت
*
وأضرارها فينا تزيد وتعظـم
فهل من دواء للعـوائد إنـها
*
إذا تركت في الجسم لا شك تعدم
أشدخ رؤوس كلما حان موسم
*
ونهـش أفاع نهشـهن محـرم
أمن شرف الإنسان يدخل بيته
*
عواهر في تنهاقها تتنغم ([53])
وندع مراكش، وما كان لها من تجاوب مع دروس أبي شعيب ودعوته، ونرحل إلى فاس، لنلقي بعض الأضواء عما كان لدروسه ودعوته من صدى هناك، فنجد أن أول دروسه بفاس كان عام 1323ه، عندما افتتح صحيح الإمام البخاري بجامع القرويين فضاقت رحابه بالحاضرين، الذين رأوا من علمه الأعاجيب.([54])
وتكرر اللقاء عام 1325ه بعد اعتلاء السلطان مولاي عبد الحفيظ عرش المغرب.([55])
ثم توالت زيارات الشيخ إلى فاس، وتخرجت على يديه أفواج من العلماء يأتي في مقدمتهم، سنده في حياته، وحامل اللواء من بعده، شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، موقظ الهمم، كما كان يسميه محمد المختار السوسي.([56])
ونعود من فاس إلى الرباط، حيث حط أبو شعيب الدكالي الرحال، منذ أن عين وزيرا إلى أن لقي ربه، فنجد العاصمة في أعراس علمية دائمة وحركة سلفية نشيطة، قد استهوت عالما فحلا كمحمد المدني ابن الحسني، فثنى ركبته على علمه وفضله ليواظب على حضور دروس أبي شعيب في الحديث خاصة، طوال مدة تزيد على العشرين عاما.([57])
ومثل حاله، كان حال عدد من نوابغ الطلاب كالعلامة المفكر محمد السائح، والعلامة الشاعر محمد بن اليمني الناصري، والعلامة المؤرخ عبد الله الجراري، والعلامة الحافظ شيخنا ا لرحالي الفاروق. الذي لازمه بالرباط ما يقرب من ثلاثة أعوام، بعد أن أخذ عنه في كل من مراكش وفاس، رحمهم الله جميعا، وكأستاذنا العلامة الشيخ محمد المكي الناصري، أمد الله في عمره، الذي قال مخاطبا الشيخ أبا شعيب الدكالي ليلة ختمه لسنن ابن ماجه بالزاوية الناصرية:
أسست للإصلاح أسا ثابـتا
*
وفتحت منه كل باب موصد
أظهرت للناس الحقيقة جهرة
*
لم تخش في دعواك قول مفند([58])
مشيرا إلى كتابه الذي أسماه «إظهار الحقيقة وعلاج الخليفة»([59])، دافع فيه عن السنة بقوة، وهاجم دون هوادة ما كان شائعا وقتئذ من بدع وخرافات، مما أثار ضجة هائلة في ذلك العهد، مما لا نريد الخوض فيه، لأن الحملة ضد الزوايا والطرقيين سرعان ما توقفت، استجابة لنصيحة الأمير شكيب أرسلان، الذي كان من زعماء الحركة الوطنية إذ ذاك، بإيقاف هذه الحملات، والاهتمام بمقاومة العدو الحقيقي(الاستعمار). وكان من أبرز هؤلاء الزعماء الرواد علال الفاسي، وعبد الله كنون، وأحمد بلافريج، رحمهم الله تعالى، ومحمد المكي الناصري، أمد الله في عمره.([60])
وبعد؛ فمن هؤلاء الطلبة جميعا وغيرهم ممن أخذوا عن أبي شعيب في جهات كثيرة من المغرب تكونت الطليعة الأولى من السلفيين، الذين قادوا الحركة الوطنية، التي برزت في صورتها السياسية ابتداء من صدور الظهير البربري في10 ماي 1930م.
[1] ) المحدث أبو شعيب الدكالي تأليف عبد الله الجراري (مطبعة النجاح الجديدة) الدار البيضاء 1396ه /1976م.
[2] ) معجم الشيوخ المسمى: «رياض الجنة» أو «المدهش المطرب» : تأليف عبد الحفيظ الفاسي، 2/ 142.
[3] ) المحدث الحافظ، 17.
[4] ) الحكم العطائية، 91.
[5] ) المحدث الحافظ، 17.
[6] ) نفسه ، 16 18.
[7] )قبيلبة زعير قديما وحديث: تأليف محمد بن عمر ابن سودة التاودي 2/221.(مطبعة دار النشر المغربية 1986م).
[8] ) سورة آل عمران ، الآية 171.
[9] ) سورة طه : الآية 13.
[10] ) قبيلة زعير 2/222.
[11] ) نفسه والجزء والصفحة.
[12] ) المحدث الحافظ 18 قبيلة زعير 2/222.
[13] ) قبيفة زعير 2*223.
[14] ) المحدث الحافظ، 18.
[15] ) قبيلة زعير 2/223.
[16] ) الأعلام لخير الدين الزركلي: 3/167، وانظر (أعلام المغرب العربي) لعبد الوهاب بن منصور 198.
[17] ) أنظر المحدث الحافظ 18.
[18] ) مجلة الأزهر (المصرية) ج10/ السنة51، ص: 2286.
[19] ) قبيبة زعير 2/223.
[20] ) قبيلة زعير 2/223. المحدث الحافظ 9.
[21] ) قبيلة زعير 2/224.
[22] ) المحدث الحافظ ، 18.
[23] ) تاريخ الإسناد: الإمام محمد عبده ، تأليف رشيد رضا 1/870.
[24] ) أنظر (المحدث الحافظ) في مواضع شتى.
[25] ) قبيلة زعير 2/224.
[26] ) نفسه والجزء والصفحة.
[27] ) المحدث الحافظ 10.
[28] ) الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تأليف : القاضي العباسي بن إبراهيم المراكشي 2/479. (المطبعة الملكية الرباط 1974).
[29] ) المحدث الحافظ 10.
[30] ) أنظر (المحدث الحافظ) 121/ قبيلة زعير 2/232.
[31] ) شاعر الحمراء في الغربال، تأليف: أحمد الشرقاوي إقبال/ 196 مطبعة الجامعة الدار البيضاء.
[32] ) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، تأليف د. محمد البهي / 174.( دار الفكر بيروت/ ط6، 1973).
[33] ) دعوة الحق، ع4/ س:14 ، ص: .
[34] ) أنظر قبيلة زعير: 2/228 235.
[35] ) المحدث الحافظ 10.
[36] ) أنطر الإعلام للمراكشي: 2/479.
[37] ) أنظر (المحدث الحافظ) في مواضع شتى.
[38] ) دعوة الحق، ع2، س 12/ ص: 39.
[39] ) المحدث الحافظ: 33 / 107.
[40] ) نفسه 14.
[41] ) قبيلة زعير 2/219.
[42] ) المحدث الحافظ 10.
[43] ) نفسه 131.
[44] ) الإلغيات: 2/111 114.
[45] ) من شعر أحمد النور المراكشي: جمع وتعليق أحمد متفكر 64( المطبعة الوطنية) مراكش 1990م.
[46] ) نفسه 65.
[47] ) أحلام الفجر ، تأليف: عبد القادر حسن( الطبعة الأولى)، مطبعة التقدم الإسلامية بالحمراء مراكش 1355ه/1934م.
[48] ) نفسه 88.
[49] ) نفسه 89.
[50] ) أنظر نص إجازته في (شاعر الحمراء في الغربال: 14).
[51] ) المحدث الحافظ : 120.
[52] ) شاعر الحمراء في الغربال.
[53] ) نفسه.
[54] ) أنظر لكلمة محمد السراج في (الكتاب الذهبي لجامعة القرويين) : 148 157.
[55] ) نفسه.
[56] ) الألغيات 2/226.
[57] ) من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا، تأليف عبد الله الجراري: 2/202.
[58] ) المحدث الحافظ 90.
[59] ) أنظر الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج: 2/77. (مصورة فضالة: 1979م). المناهل، ع34، ص: 325.
[60] ) مجلة(الكرمل)، ع:11/ ص144.