1 محمد بن عبد الكريم الخطابي وعبد الخالق الطريس.. حوار حول مغرب ما بعد الاستقلال الجمعة يوليو 30, 2010 11:55 pm
ahmed
عضو فعال
حدث في القاهرة سنة 1957
إبراهيم الخطيب
في إطار الإعداد للزيارة التي كان الملك محمد الخامس يعتزم القيام بها إلى المشرق في سنة 1958، والتي أطلق عليها الإعلام الرسمي صفة
«لقاء الجناحين» (المشرق والمغرب)، طُلب من سفير المغرب في القاهرة آنذاك، السيد عبد الخالق الطريس (1910-1970)، القيام بمحاولة لإقناع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي كان مقيما بعاصمة الكنانة منذ تحريره سنة 1947، بالعودة إلى بلاده قبل زيارة الملك نظرا للإحراج الذي يمكن أن يسببه وجود زعيم وطني في «المنفى». لقد رأت بعض الأوساط أن مقام الزعيم الريفي في مصر كان مبررا قبل استقلال المغرب، لكن التبرير يجب أن يعتبر ساقطا بعد رحيل الإدارة الاستعمارية. بيد أن الأمير، في الواقع، لم يكن راضيا عن الطريقة التي تمت بها المفاوضات بين المغرب وفرنسا، حيث عبر عن عدم رضاه في أحاديث أدلى بها للصحافة المصرية. هكذا انتقد توقف حركة المقاومة المسلحة، وهيمنة السياسيين على المفاوضات، التي كان من نتائجها استمرار الحضور العسكري الفرنسي في الصحراء، وبقاء الفرنسيين ممسكين بزمام الإدارة، مع ما يعنيه ذلك من سيطرة اللغة الفرنسية على مختلف مرافق التسيير. انتقادات الأمير مست أيضا الأوضاع الاجتماعية والسياسية والحزبية، حيث أكد على خفوت حس المواطنة لدى المغاربة بسبب التـشرذم المذهبي، والصراع على الفوز برضى القيادات الفئوية، وانفراط عِقد الوحدة المغاربية الذي توثق إبان سنوات مقاومة الاستعمار. في هذا السياق، وفي إطار المهمة الموكولة إليه، قام السيد عبد الخالق الطريس في شهر يونيو 1957 بزيارة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في منزل أخي هذا الأخير، حيث دار بين الرجلين حديث معمق حول الأوضاع في المغرب، وحول شروط العودة المحتملة لزعيم الريف إلى بلاده، بحضور الكاتب والصحفي التهامي الوزاني (1903-1972) الذي سجل في مخطوط كتابه «الرحلة الخاطفة» محتوى هذا اللقاء الهام. ورغم ما توحي به خاتمة اللقاء من معنى قبول الأمير العودة إلى المغرب في أقرب وقت، فإن ذلك لم يتم، بل ظل في حكم النوايا فقط. هكذا حل موعد الزيارة الملكية لمصر وزعيم الريف لازال هناك. ويروي بعض الذين كانوا في استقبال الملك بمطار القاهرة أن العاهل المغربي عندما لاحظ عدم وجود محمد بن عبد الكريم الخطابي بين مستقبليه، استفسر عن السبب، فقيل له إن الرجل معتل الصحة. حينئذ، أحدث الملك محمد الخامس، وكان معروفا ببساطته وتواضعه، خرقا بليغا في البروتوكول الرسمي، وقام بزيارة الأمير في منزله حيث دار بينهما حديث لا يعرف شيء عن فحواه، لكنه كان وديا كما أكدت ذلك الابتسامة التي التقطتها عدسات المصورين على شفاه الرجلين.
لما حل وقت الزوال، خرجت مع الأستاذ عبد الخالق الطريس من السفارة، وقصدنا «فيلة» السيد امحمد بن عبد الكريم الخطابي، أخي الأمير محمد. وشاهد أنجال الأمير وأبناء عمهم السيارة مقبلة، فخفوا لمقابلة السفير. ولما نزل قوبل بالعناق الحار. ولم يكن حاضرا إلا الأمير وأخوه، وجماعة من أبنائهما…
وسواء كان الزوال على الساعة الثالثة أو الثانية عشرة، فإنه وقت لصلاة الظهر في كل من مصر والمغرب، وهو وقت الغداء أيضا. وقد دعينا للغداء – صحبة الأستاذ الطريس- مع الأمير على مائدة أخيه. ولابن عبد الكريم شيعة وله خصوم، وهو البطل سواء عند أنصاره أو خصومه. ولقد زرناه حين زرناه لنرى البطولة. وليس من اللازم أن نقدم لكل بطل قربانا من مبادئنا ولا أن ننسى معه شخصياتنا، بل الأمر على العكس.
وبعد أن تناولنا طعام الغداء، انتقلنا إلى قاعة لطيفة، فأشار سموه إلى أبنائه وأبناء أخيه، وبقيت القاعة لأربعتنا: الأمير، والأستاذ الطريس، وأخو الأمير، وكاتب هذه السطور. ودار حديث صريح، لا تحفظ فيه ولا مواربة. ويمكن القول بأن الحديث، الذي دام نحو ساعتين، انحصر في بحث الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالمغرب، وفي مذاهب الأحزاب المغربية، وفي شأن رجوع الأمير إلى بلاده.
فأما ما يتعلق بالحالة الاجتماعية، فإن الأمير يرى أن التطور الحالي يتجه اتجاه التفرنج الجامح، بما فيه من انحلال واستهتار، فهو غير راض عن سفور المرأة في المدينة، وإذا كان ولا بد لها من السفور فليكن في الحدود التي حددتها الشريعة الإسلامية.
وتولى الأستاذ الطريس مناقشته في هذه الناحية، فكان مما قال: إن ما يعده رجال الأمس مجاوزة للحدود، لا يرى فيه الشبان إلا حقا طبيعيا يجب أن تتمتع به المرأة. وإذا حاول الرجل بسط سيطرته الكاملة عليها وأباح لنفسه أن يفرض إرادته دون أخذ رأيها، فإن هذا في نظر الشبان لا يزيد عن كونه وجها من وجوه الاستعباد، ولن يتأخر الشبان عن إعلان حرب شعواء ضد كل قيد من القيود، فإن مغرب اليوم في ثورة نفسية لا يمكن مقاومتها. وليست قضية سفور المرأة في الإسلام بالطامة الكبرى. ولعل اعتراض سبيلها باسم الدين، سيجعلها، والشاب إلى جنبها يؤازرها، تتبرأ من الدين جملة وتفصيلا. والعقلاء لا يألون جهدا في سبيل إفهامها أن الإسلام لا يعارضها في حريتها، وهي بذلك راضية عن الدين أو على الأقل لا تعتبره عدوا لها. أما إذا ألزمناها بالحجاب الغليظ فإننا سنسعى في هدم العقيدة في نفسها. ولعل ترك بعض المنافذ مفتوحة لصرف فيضان الثورة يذهب بشرورها. فإذا لم نتركها كذلك، فلسنا ندري ما هو الحل إذا ما اخترقت المرأة والشاب الحدود علنا، وجاهرا بأنهما بريئان من دين يخنقهما ولا يبيح لهما من حريتهما حتى القدر الذي يجعلهما رفيقين في الشارع، كما هما زوجان في البيت. وهذا ما يجعلنا نقبل حالة السفور بالنسبة للمرأة في المدينة، أما امرأة البادية فسافرة ولا إشكال، وليست المدن إلا سدس البوادي.
وسكت الأمير فلم يوافق ولم يخالف، ونقل الحديث عن المرأة إلى الحديث عن المحافظة على الآداب الإسلامية عامة، فكان جواب الأستاذ الطريس أن الفضيلة هي الدعامة القوية لبناء صرح الأمة، ولكن حدود الفضيلة يجب أن توضع في النطاق الذي يتناول الشرور الحقيقية فيحاربها، والفضائل الصحيحة فيؤيدها، دون أن تترك الجواهر، ويقع الانصراف إلى أمور شكلية محضة. والذين درسوا الإسلام على ضوء الحقائق، وتفهموا آيات وأحكام القرآن الكريم مجمعون على أن القرآن منبع فياض للفضيلة الحقيقية، ولهذا فمن واجب الدولة المغربية أن تعد أمة لنشر حقائق الإسلام التي يكون لها الأثر في ترقية المستوى الخلقي والاجتماعي لمسلمي المغرب. ويجب أن نعلم أن الإسلام دين مئات الملايين من البشر، ذوي اتجاهات مختلفة، ونوع من الحياة غير متشابه، ومنها عناصر مفكرة، تواجه تيارات فكرية عتيدة، تحكّم المنطق وتروج آراءها بما يدهش العقول ويحيّر الألباب. فإذا كنا نرغب في انتصار الأفكار الإسلامية، فعلينا ألا نحسب البشرية منحصرة في رقعة ضيقة من الأرض، وأن الناس هم العدد القليل من الأصدقاء الذين نعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وألقابهم، بل نحسبها كما هي، وننظر إلى البشرية في مجموعها، وما جاء الإسلام إلا ليكون دينا عاما للبشرية جمعاء. وما نعتقد أن الإسلام القرآني يعجز عن تأدية هذه المهمة. وبعض ذوي النوايا الحسنة من رجالنا تنقصهم الخبرة بشؤون البشرية، ويعوزهم الاطلاع على مختلف اتجاهاتها الفكرية، فهؤلاء لا ينظرون إلى الإسلام إلا من خلال عقليتهم المحدودة، ولا يشعر الواحد منهم أنه يسيء للإسلام حينما يجعله دينا لا هم له إلا الشكليات، وتأدية بعض الطقوس. أما الذين يدركون حقيقة امتداد الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، ويريدون أن يطبقوا كلهم قواعد الإسلام، فإنهم يعلمون أن المأمور به لن يكون أمرا معقولا إلا إذا كان في حدود الإمكان، ميسور التطبيق. ولما أنهى الأستاذ الطريس عرض وجهة نظره، أجابه الأمير بأن الإسلام الحقيقي لا يزيد ولا ينقص عن هذا شيئا، وأن تعاليمه صالحة لكل زمان ومكان.
من الناحية السياسية، عرض الأمير رأيه الملخص فيما يلي: إن المغرب لا يمكن أن يعتبر مستقلا إلا إذا انسحب الجيش الفرنسي ولم يبق بالإدارة المغربية أجنبي واحد، وأن تعرب كلها. وما دام الجيش الفرنسي مقيما بالبلاد، والمديرون الفرنسيون متولين للوظائف الحيوية، ولغة الدواوين أجنبية، فمن واجب المغرب أن يبقى في حالة حرب مع الفرنسيين. وليس هذا الاستقلال الصوري الذي يتوهم المغاربة معه أنهم مستقلون إلا مخدر ناولته إياهم فرنسا لتتفرغ لمحاربة الشعب الجزائري المكافح. ومن الواجبات الأوليات أن يشعر المغاربة في المغرب الأدنى والأوسط والأقصى بأن قضيتهم واحدة، وأن وطنهم واحد، لا يمكن أن يتجزأ. ثم إن فرنسا لا تزال تسيطر بقوتها على الصحراء المتممة للمغرب، والتي لا يمكن للمغرب أن يحيا بدونها، وما تسميه «موريطانيا» ليس إلا جزءا من بلادنا. وقد بلغ من تحدي فرنسا لشعوب الشمال الإفريقي، وللمغرب خاصة، أنها دعت دولا مسيحية للقيام بمشاريع كبرى في الصحراء. أما المغرب الذي يزعم أنه دولة صديقة لفرنسا، فإن هذه الأخيرة لم تأخذ رأيه في هذه الإجراءات الشاذة، ولا دعته للمساهمة فيها. وليس هذا بعجيب من فرنسا، فإنها اعتادت أن تحتقر المغرب وتهينه، ويكفيه برهانا على ذلك أنها أذنت للولايات المتحدة الأمريكية ببناء قواعدها بالمغرب دون أن تشعر بذلك السلطات المغربية، وما عرف المغاربة بالنبأ إلا عن طريق الصحف. لقد جاء هذا الاستقلال المزعوم والحال هي هي لم تتبدل ولم تتغير. فعلى المغاربة أن يجابهوا الحقيقة المرة، ويعلموا أن بينهم وبين الاستقلال الحقيقي بحارا من الدماء والدموع، وآلاما لا نهاية لها. ومن مصلحة المغرب أن يواصل الكفاح في سبيل استقلاله، ما دام الشعب الجزائري يقلق راحة فرنسا. لقد جاشت الثورة في صدور الأمة المغربية، حتى إذا آتت أولى ثمراتها، تزعمها خريجو المدارس الفرنسية الذين أخذوا يشيدون بمجد فرنسا وعظمتها، ويقولون في حق الإسلام ما يستفظع الإنسان التفوه به. لقد صرحت برأيي هذا لكل من تحدثت إليهم من الصحفيين، وأنا اليوم على رأيي بالأمس. أعتقد أن المغاربة وقفوا في منتصف الطريق، فما قطعوا من الجهاد إلا مراحله الأولى، ولا يزال الوقت متسعا أمامهم لمواصلته، وستعلم الأحزاب المغربية أنها كانت مخطئة حين انحنت أمام الاستعمار، مع أن الشعب كان لا يزال يحمل من روح الثورة ما يكفيه لمجابهة رواسبه وبقاياه. وعلى ذكر الأحزاب، فإن زعماءها المسؤولين عن سياسة المغرب تنقصهم الشجاعة الكافية. وما أرى إلا أن أحزابهم في حاجة إلى قادة من نوع آخر: قادة من الشعب، يحملون نفس روحه، وليس ديدنهم التفرقة حتى تدابر الأخ وأخوه، والصديق وصديقه، وطغت الحزبية على الوطنية. وما أحوجنا إلى حركة تتوحد فيها جهود المواطنين، فيتذكرون أنهم مواطنون، يسوء الواحد منهم ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره.
وقال الطريس: إن الفرق بعيد بين الاستعمار في شرق البلاد العربية ومغربها، والاستعمار الذي عاناه المشرق لم يكن إلا بلاء خفيفا إذا قورن بالاستعمار الفرنسي. فقد كانت إنجلترا حريصة على أن تذهب بالأموال، أما الاستعمار الفرنسي فإنه ذهب بالأموال ومارس الإبادة والاستخلاف. ولو طال بالشمال الإفريقي أكثر مما طال لانقرض المغاربة وخلفهم جيل من متشردي الأوروبيين المتفرنسين. نقول هذا لأن الفرنسيين الحقيقيين قليلو العدد، وفرنسا تكفيهم وزيادة، لكن فرنسيي المستعمرات هم أمم من الإسبان الحمر، والإيطاليين المنبوذين، وجماعات لم تحتملها أوروبا لسوء سلوكهم، فتجنسوا بالجنسية الفرنسية وملأوا المستعمرات. ولما أعلن استقلال المغرب، تبعه انسحاب المراقبين من القبائل، فكاد يندثر الحكم المباشر، وهذا في نظر المغاربة تحرير أكثر منه استقلال. وما أفاد المغرب في استقلاله- في واقع الأمر- إلا النظام الدولي الذي حال بين فرنسا وسياسة الإبادة. لذا فإن قوتنا أن نعتد بالرأي العام الدولي، دون أن نعتمد عليه كثيرا. وقد استطعنا أن نكتسب صداقة فرنسا، فأصبحت مصالحها بالمغرب محفوظة، وهذه قوة لنا، أما إذا واجهناها فسيكون الرأي العام الدولي ضدنا. والقول بأن الشمال الإفريقي وحدة لا تتجزأ هو قولنا نحن معشر المغاربة، أما الرأي العام الدولي فإنه يحسب المغرب وتونس دولتين كاملتي السيادة، في حين لا زال يعتبر الجزائر جزءا لا يتجزأ من فرنسا. والحقيقة أن الرأي العام لا يؤمن بما تقوله فرنسا، كما لا يؤمن بما نقوله نحن، وحقيقة الأمر عنده أن للفرنسيين مصالح بالجزائر، وبها نحو مليون من الحاملين للجنسية الفرنسية. إن الجزائر أمة تناضل عن حريتها، وجميع الأمم تنتظر أن تنتصر لكي تقيم الحجة على حيويتها، فتسارع إلى الاعتراف بوجودها. وربما ستكون أمريكا أول من يعترف بالجزائر بعد انتصارها العسكري. ولن يتخلى الرأي العام الدولي عن التدخل في مصير المليون فرنسي، إلا إذا اتخذت الجزائر موقفا كموقف المغرب. فمن مصلحة المغرب أن يحتفظ بصداقة فرنسا، دون أن يتنازل عن العمل على وحدة الشمال الإفريقي، وله كل الحق في أن يساعد الجزائر في سائر الميادين. وليس في وسع المغرب أن يفعل أكثر مما فعل، سيما وهو لا يزال مجردا من السلاح أو يكاد، وليس له من الاستقلال إلا خطوطه الرئيسية الأولى.
والصواب مع الأمير إلى حد بعيد فيما يرجع للاضطراب الحاصل في مؤسساتنا السياسية. وإذا راجعنا هذه المؤسسات لم نجد ما يمكن إصلاحه منها إلا حزب الاستقلال، أما الهيآت الأخرى فتأثيرها ضعيف سواء في الداخل أو الخارج. والعيب الذي في الحزب هو أنه بحاجة إلى التطهير من العناصر المتقنعة بقناع الوطنية. فإذا فعل ذلك، كان الأداة الصالحة للسير بالمغرب في الطريق الصعب حتى يتمكن من الإجهاز على رواسب الاستعمار، ويتمكن من بناء مغرب فتي متناسب مع الثورة النفسية التي يوجد عليها شباب المغرب وعناصره الصالحة. وسموكم، أيها الأمير، من أقوى العناصر في تثبيت قدم الاستقرار، لذا فإن وجودكم بالمغرب أصبح اليوم ضروريا ومفيدا، لكي يجد المواطنون الرجل المحترم ذا السمعة الطيبة الذي يترفع عن المنازعات الحزبية. وإذا تحقق هذا الرجاء، ووجد رجال كبار على مسرح الحياة المغربية يتميزون بالحياد، ولا يتأثرون بالحزبيات، فإن الصراع بين الأحزاب سوف يخف إن شاء الله.
قال الأمير: كم بودي أن أعود إلى بلادي ومسقط رأسي، وكنت آليت على نفسي ألا أعود إلى المغرب إلا بعد أن يتم استقلاله. وعلى كل حال، فإنه إن لم يستقل من جميع الوجوه، فإنه ابتعد عن الأخطار التي أشرتم إليها، وثقتي بالله عظيمة في أن يرشد المغرب إلى العمل على استكمال سيادته، وهذه البوادر تحملني على الاعتقاد بأنني إذا رجعت إلى وطني فإنني سأكون بارا بقسمي، موفيا بنذري. فقد ارتفع الحكم المباشر، وأصبح الأمر بيد المغاربة، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساؤوا فعليهم. وأرجو أن يكون رجوعي إلى المغرب قريبا بواسطتكم يا سعادة السفير. وقد علمت من الأنباء التي تنشرها الصحف أنكم عما قريب سترجعون إلى المغرب، بحول الله، لحضور مؤتمر السفراء المغاربة الذي سينعقد بالرباط في الشهر المقبل. وعسى أن تعملوا مع صاحب الجلالة حتى أرجع إلى وطني، ولي من الضمانات ما يخفف عني أتعابي النفسية، سواء فيما يرجع لمقاومة بقايا الاستعمار التي تحد من حرية المغرب في العمل، أم فيما يرجع لحريتي الفردية، وأمن أصحابي على حقوقهم.
قال الطريس: أما أنا، فأصبحت متأكدا من أن وجودكم خارج المغرب لم يعد له معنى، وأن وجودكم بالمغرب مرتبط كل الارتباط بالجهاد المرير الذي عانيتم بأسه من لدن أكثر من ثلث قرن. فقد آن اليوم الذي ترون فيه نتيجة جهادكم وجهاد من خلفكم في الميدان. وما يقال من أن سموكم لا تستطيعون احتمال التصرفات الناتجة عن الصعوبات الأولى، فإن سعة نظركم وتقديركم لمشاكل الطور الجديد الذي دخل فيه المغرب سيكونان كفيلين بالعمل على الانسجام بين وجودكم وما توحي به ظروف الوطن من الحيطة والحذر والتيقظ للمناورات والدسائس. فمن واجب أي مواطن أن يضحي ببعض حرياته وبعض مصالحه، وحتى بعض آرائه إذا كانت سلامة الوطن تقتضي ذلك. وأنا أفهم من وجودكم بالمغرب أنكم ستطلعون على الوضعية الحقيقية فيه، وستلمسون حاجياته عن قرب، ولن يكون صديقكم إلا من يعمل لخير المغرب، وكل مشكوك في تصرفه أو متلاعب بالنار أو راغب في أن يتوصل إلى قصد دنيء بواسطة التقرب إليكم، فإنه سيكون من ألد أعدائكم ولا شك. إنكم، أيها الأمير، في ضيافة الأمة المصرية الكريمة وحكومتها الموفقة، فأنتم عند أبناء عمكم، وبين الذين يقدرون جهادكم وتضحيتكم. وقد سعينا جهدنا في إيوائكم ببلاد الكنانة وكنا موفقين. وأتى وجودكم في مصر بثمره الطيب، فقد تعلم أبناؤكم وشغلوا مكانا بارزا في الحياة العربية، وصاروا رجالا معتمدين. ومن فضل الله علينا جميعا أن نرى سلائل المجاهدين ببلاد الريف يعملون في حقل العروبة الواسع. هذا كله واقع، ومع ذلك فإن كرامة المغرب الحر المستقل تأبى عليه أن يترك بطلا من أبطاله يعيش على حساب غيره. فإن وطنكم يوجب على نفسه أن ينعمكم بخيراته، وأن يعترف لسموكم بالسعي المشكور الذي قمتم به في سبيل حريته واستقلاله. ولن نرضى نحن المغاربة المناضلين أن تبقوا في نفس الوضعية التي كنتم عليها من حرمانكم من دياركم وأموالكم ومراتع طفولتكم، فإن بني ورياغل مشتاقة إليكم مثلما أنتم مشتاقون إليها. فاغرورقت عينا الأمير بالدموع، وقال بصوت خافت: أرجو أن يكون لسعادتكم الفضل في رجوعي وأخي إلى الوطن الحبيب. وما رجوعنا بالشيء الممتنع. وأرجو أن نعمل لصالح المغرب أكثر مما نقول، حتى يعلم الذين لا يعلمون أن محمد بن عبد الكريم لا يزال في وسعه أن يعمل لخير الوطن، ولتوحيد الكلمة، والقضاء على النزاعات المحلية، وجعل الوطنية المثلى الغرض الأقصى. ثم قال الأستاذ الطريس: لقد لذ الحديث مع سموكم، وأرجو أن تشرفوا منزلي بالقاهرة حتى تحصل بكم البركة وتدعون فيها لأبنائي، ولا شك أن دعاءكم مستجاب. فابتسم الأمير وقال: سأحضر إن شاء الله، على أني في حمية لا آكل إلا تحت إرشاد الطبيب، وكل ما أستطيع تناوله قطعة من فرخة مطبوخة بالماء وقليل من الملح، فعلى هذه الوتيرة أعيش من لدن وقت ليس بالقصير. وتحدد الموعد على أن يكون يوم الأحد (23 يونيو1957). ونظر الأستاذ إلى الساعة وقال: أيها الأمير، أمامي موعد قد اقترب، فأستأذنكم في الانصراف. وابتسم سموه، وخرجنا، فوجدنا أبناء الأمير وأخيه، فسلموا علينا بأدب واحتشام. وعانقنا سمو الأمير وأخيه، وركبنا السيارة، ورجعنا إلى الزمالك، فقضى السفير بعض حاجاته، وانتقل إلى قصر عابدين لحضور سمسرة مالا تحتاجه الدولة من تركة الملك فاروق الأول الذي أطيح به إثر قيام
الثورة.
إبراهيم الخطيب
في إطار الإعداد للزيارة التي كان الملك محمد الخامس يعتزم القيام بها إلى المشرق في سنة 1958، والتي أطلق عليها الإعلام الرسمي صفة
«لقاء الجناحين» (المشرق والمغرب)، طُلب من سفير المغرب في القاهرة آنذاك، السيد عبد الخالق الطريس (1910-1970)، القيام بمحاولة لإقناع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي كان مقيما بعاصمة الكنانة منذ تحريره سنة 1947، بالعودة إلى بلاده قبل زيارة الملك نظرا للإحراج الذي يمكن أن يسببه وجود زعيم وطني في «المنفى». لقد رأت بعض الأوساط أن مقام الزعيم الريفي في مصر كان مبررا قبل استقلال المغرب، لكن التبرير يجب أن يعتبر ساقطا بعد رحيل الإدارة الاستعمارية. بيد أن الأمير، في الواقع، لم يكن راضيا عن الطريقة التي تمت بها المفاوضات بين المغرب وفرنسا، حيث عبر عن عدم رضاه في أحاديث أدلى بها للصحافة المصرية. هكذا انتقد توقف حركة المقاومة المسلحة، وهيمنة السياسيين على المفاوضات، التي كان من نتائجها استمرار الحضور العسكري الفرنسي في الصحراء، وبقاء الفرنسيين ممسكين بزمام الإدارة، مع ما يعنيه ذلك من سيطرة اللغة الفرنسية على مختلف مرافق التسيير. انتقادات الأمير مست أيضا الأوضاع الاجتماعية والسياسية والحزبية، حيث أكد على خفوت حس المواطنة لدى المغاربة بسبب التـشرذم المذهبي، والصراع على الفوز برضى القيادات الفئوية، وانفراط عِقد الوحدة المغاربية الذي توثق إبان سنوات مقاومة الاستعمار. في هذا السياق، وفي إطار المهمة الموكولة إليه، قام السيد عبد الخالق الطريس في شهر يونيو 1957 بزيارة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في منزل أخي هذا الأخير، حيث دار بين الرجلين حديث معمق حول الأوضاع في المغرب، وحول شروط العودة المحتملة لزعيم الريف إلى بلاده، بحضور الكاتب والصحفي التهامي الوزاني (1903-1972) الذي سجل في مخطوط كتابه «الرحلة الخاطفة» محتوى هذا اللقاء الهام. ورغم ما توحي به خاتمة اللقاء من معنى قبول الأمير العودة إلى المغرب في أقرب وقت، فإن ذلك لم يتم، بل ظل في حكم النوايا فقط. هكذا حل موعد الزيارة الملكية لمصر وزعيم الريف لازال هناك. ويروي بعض الذين كانوا في استقبال الملك بمطار القاهرة أن العاهل المغربي عندما لاحظ عدم وجود محمد بن عبد الكريم الخطابي بين مستقبليه، استفسر عن السبب، فقيل له إن الرجل معتل الصحة. حينئذ، أحدث الملك محمد الخامس، وكان معروفا ببساطته وتواضعه، خرقا بليغا في البروتوكول الرسمي، وقام بزيارة الأمير في منزله حيث دار بينهما حديث لا يعرف شيء عن فحواه، لكنه كان وديا كما أكدت ذلك الابتسامة التي التقطتها عدسات المصورين على شفاه الرجلين.
لما حل وقت الزوال، خرجت مع الأستاذ عبد الخالق الطريس من السفارة، وقصدنا «فيلة» السيد امحمد بن عبد الكريم الخطابي، أخي الأمير محمد. وشاهد أنجال الأمير وأبناء عمهم السيارة مقبلة، فخفوا لمقابلة السفير. ولما نزل قوبل بالعناق الحار. ولم يكن حاضرا إلا الأمير وأخوه، وجماعة من أبنائهما…
وسواء كان الزوال على الساعة الثالثة أو الثانية عشرة، فإنه وقت لصلاة الظهر في كل من مصر والمغرب، وهو وقت الغداء أيضا. وقد دعينا للغداء – صحبة الأستاذ الطريس- مع الأمير على مائدة أخيه. ولابن عبد الكريم شيعة وله خصوم، وهو البطل سواء عند أنصاره أو خصومه. ولقد زرناه حين زرناه لنرى البطولة. وليس من اللازم أن نقدم لكل بطل قربانا من مبادئنا ولا أن ننسى معه شخصياتنا، بل الأمر على العكس.
وبعد أن تناولنا طعام الغداء، انتقلنا إلى قاعة لطيفة، فأشار سموه إلى أبنائه وأبناء أخيه، وبقيت القاعة لأربعتنا: الأمير، والأستاذ الطريس، وأخو الأمير، وكاتب هذه السطور. ودار حديث صريح، لا تحفظ فيه ولا مواربة. ويمكن القول بأن الحديث، الذي دام نحو ساعتين، انحصر في بحث الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالمغرب، وفي مذاهب الأحزاب المغربية، وفي شأن رجوع الأمير إلى بلاده.
فأما ما يتعلق بالحالة الاجتماعية، فإن الأمير يرى أن التطور الحالي يتجه اتجاه التفرنج الجامح، بما فيه من انحلال واستهتار، فهو غير راض عن سفور المرأة في المدينة، وإذا كان ولا بد لها من السفور فليكن في الحدود التي حددتها الشريعة الإسلامية.
وتولى الأستاذ الطريس مناقشته في هذه الناحية، فكان مما قال: إن ما يعده رجال الأمس مجاوزة للحدود، لا يرى فيه الشبان إلا حقا طبيعيا يجب أن تتمتع به المرأة. وإذا حاول الرجل بسط سيطرته الكاملة عليها وأباح لنفسه أن يفرض إرادته دون أخذ رأيها، فإن هذا في نظر الشبان لا يزيد عن كونه وجها من وجوه الاستعباد، ولن يتأخر الشبان عن إعلان حرب شعواء ضد كل قيد من القيود، فإن مغرب اليوم في ثورة نفسية لا يمكن مقاومتها. وليست قضية سفور المرأة في الإسلام بالطامة الكبرى. ولعل اعتراض سبيلها باسم الدين، سيجعلها، والشاب إلى جنبها يؤازرها، تتبرأ من الدين جملة وتفصيلا. والعقلاء لا يألون جهدا في سبيل إفهامها أن الإسلام لا يعارضها في حريتها، وهي بذلك راضية عن الدين أو على الأقل لا تعتبره عدوا لها. أما إذا ألزمناها بالحجاب الغليظ فإننا سنسعى في هدم العقيدة في نفسها. ولعل ترك بعض المنافذ مفتوحة لصرف فيضان الثورة يذهب بشرورها. فإذا لم نتركها كذلك، فلسنا ندري ما هو الحل إذا ما اخترقت المرأة والشاب الحدود علنا، وجاهرا بأنهما بريئان من دين يخنقهما ولا يبيح لهما من حريتهما حتى القدر الذي يجعلهما رفيقين في الشارع، كما هما زوجان في البيت. وهذا ما يجعلنا نقبل حالة السفور بالنسبة للمرأة في المدينة، أما امرأة البادية فسافرة ولا إشكال، وليست المدن إلا سدس البوادي.
وسكت الأمير فلم يوافق ولم يخالف، ونقل الحديث عن المرأة إلى الحديث عن المحافظة على الآداب الإسلامية عامة، فكان جواب الأستاذ الطريس أن الفضيلة هي الدعامة القوية لبناء صرح الأمة، ولكن حدود الفضيلة يجب أن توضع في النطاق الذي يتناول الشرور الحقيقية فيحاربها، والفضائل الصحيحة فيؤيدها، دون أن تترك الجواهر، ويقع الانصراف إلى أمور شكلية محضة. والذين درسوا الإسلام على ضوء الحقائق، وتفهموا آيات وأحكام القرآن الكريم مجمعون على أن القرآن منبع فياض للفضيلة الحقيقية، ولهذا فمن واجب الدولة المغربية أن تعد أمة لنشر حقائق الإسلام التي يكون لها الأثر في ترقية المستوى الخلقي والاجتماعي لمسلمي المغرب. ويجب أن نعلم أن الإسلام دين مئات الملايين من البشر، ذوي اتجاهات مختلفة، ونوع من الحياة غير متشابه، ومنها عناصر مفكرة، تواجه تيارات فكرية عتيدة، تحكّم المنطق وتروج آراءها بما يدهش العقول ويحيّر الألباب. فإذا كنا نرغب في انتصار الأفكار الإسلامية، فعلينا ألا نحسب البشرية منحصرة في رقعة ضيقة من الأرض، وأن الناس هم العدد القليل من الأصدقاء الذين نعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وألقابهم، بل نحسبها كما هي، وننظر إلى البشرية في مجموعها، وما جاء الإسلام إلا ليكون دينا عاما للبشرية جمعاء. وما نعتقد أن الإسلام القرآني يعجز عن تأدية هذه المهمة. وبعض ذوي النوايا الحسنة من رجالنا تنقصهم الخبرة بشؤون البشرية، ويعوزهم الاطلاع على مختلف اتجاهاتها الفكرية، فهؤلاء لا ينظرون إلى الإسلام إلا من خلال عقليتهم المحدودة، ولا يشعر الواحد منهم أنه يسيء للإسلام حينما يجعله دينا لا هم له إلا الشكليات، وتأدية بعض الطقوس. أما الذين يدركون حقيقة امتداد الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، ويريدون أن يطبقوا كلهم قواعد الإسلام، فإنهم يعلمون أن المأمور به لن يكون أمرا معقولا إلا إذا كان في حدود الإمكان، ميسور التطبيق. ولما أنهى الأستاذ الطريس عرض وجهة نظره، أجابه الأمير بأن الإسلام الحقيقي لا يزيد ولا ينقص عن هذا شيئا، وأن تعاليمه صالحة لكل زمان ومكان.
من الناحية السياسية، عرض الأمير رأيه الملخص فيما يلي: إن المغرب لا يمكن أن يعتبر مستقلا إلا إذا انسحب الجيش الفرنسي ولم يبق بالإدارة المغربية أجنبي واحد، وأن تعرب كلها. وما دام الجيش الفرنسي مقيما بالبلاد، والمديرون الفرنسيون متولين للوظائف الحيوية، ولغة الدواوين أجنبية، فمن واجب المغرب أن يبقى في حالة حرب مع الفرنسيين. وليس هذا الاستقلال الصوري الذي يتوهم المغاربة معه أنهم مستقلون إلا مخدر ناولته إياهم فرنسا لتتفرغ لمحاربة الشعب الجزائري المكافح. ومن الواجبات الأوليات أن يشعر المغاربة في المغرب الأدنى والأوسط والأقصى بأن قضيتهم واحدة، وأن وطنهم واحد، لا يمكن أن يتجزأ. ثم إن فرنسا لا تزال تسيطر بقوتها على الصحراء المتممة للمغرب، والتي لا يمكن للمغرب أن يحيا بدونها، وما تسميه «موريطانيا» ليس إلا جزءا من بلادنا. وقد بلغ من تحدي فرنسا لشعوب الشمال الإفريقي، وللمغرب خاصة، أنها دعت دولا مسيحية للقيام بمشاريع كبرى في الصحراء. أما المغرب الذي يزعم أنه دولة صديقة لفرنسا، فإن هذه الأخيرة لم تأخذ رأيه في هذه الإجراءات الشاذة، ولا دعته للمساهمة فيها. وليس هذا بعجيب من فرنسا، فإنها اعتادت أن تحتقر المغرب وتهينه، ويكفيه برهانا على ذلك أنها أذنت للولايات المتحدة الأمريكية ببناء قواعدها بالمغرب دون أن تشعر بذلك السلطات المغربية، وما عرف المغاربة بالنبأ إلا عن طريق الصحف. لقد جاء هذا الاستقلال المزعوم والحال هي هي لم تتبدل ولم تتغير. فعلى المغاربة أن يجابهوا الحقيقة المرة، ويعلموا أن بينهم وبين الاستقلال الحقيقي بحارا من الدماء والدموع، وآلاما لا نهاية لها. ومن مصلحة المغرب أن يواصل الكفاح في سبيل استقلاله، ما دام الشعب الجزائري يقلق راحة فرنسا. لقد جاشت الثورة في صدور الأمة المغربية، حتى إذا آتت أولى ثمراتها، تزعمها خريجو المدارس الفرنسية الذين أخذوا يشيدون بمجد فرنسا وعظمتها، ويقولون في حق الإسلام ما يستفظع الإنسان التفوه به. لقد صرحت برأيي هذا لكل من تحدثت إليهم من الصحفيين، وأنا اليوم على رأيي بالأمس. أعتقد أن المغاربة وقفوا في منتصف الطريق، فما قطعوا من الجهاد إلا مراحله الأولى، ولا يزال الوقت متسعا أمامهم لمواصلته، وستعلم الأحزاب المغربية أنها كانت مخطئة حين انحنت أمام الاستعمار، مع أن الشعب كان لا يزال يحمل من روح الثورة ما يكفيه لمجابهة رواسبه وبقاياه. وعلى ذكر الأحزاب، فإن زعماءها المسؤولين عن سياسة المغرب تنقصهم الشجاعة الكافية. وما أرى إلا أن أحزابهم في حاجة إلى قادة من نوع آخر: قادة من الشعب، يحملون نفس روحه، وليس ديدنهم التفرقة حتى تدابر الأخ وأخوه، والصديق وصديقه، وطغت الحزبية على الوطنية. وما أحوجنا إلى حركة تتوحد فيها جهود المواطنين، فيتذكرون أنهم مواطنون، يسوء الواحد منهم ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره.
وقال الطريس: إن الفرق بعيد بين الاستعمار في شرق البلاد العربية ومغربها، والاستعمار الذي عاناه المشرق لم يكن إلا بلاء خفيفا إذا قورن بالاستعمار الفرنسي. فقد كانت إنجلترا حريصة على أن تذهب بالأموال، أما الاستعمار الفرنسي فإنه ذهب بالأموال ومارس الإبادة والاستخلاف. ولو طال بالشمال الإفريقي أكثر مما طال لانقرض المغاربة وخلفهم جيل من متشردي الأوروبيين المتفرنسين. نقول هذا لأن الفرنسيين الحقيقيين قليلو العدد، وفرنسا تكفيهم وزيادة، لكن فرنسيي المستعمرات هم أمم من الإسبان الحمر، والإيطاليين المنبوذين، وجماعات لم تحتملها أوروبا لسوء سلوكهم، فتجنسوا بالجنسية الفرنسية وملأوا المستعمرات. ولما أعلن استقلال المغرب، تبعه انسحاب المراقبين من القبائل، فكاد يندثر الحكم المباشر، وهذا في نظر المغاربة تحرير أكثر منه استقلال. وما أفاد المغرب في استقلاله- في واقع الأمر- إلا النظام الدولي الذي حال بين فرنسا وسياسة الإبادة. لذا فإن قوتنا أن نعتد بالرأي العام الدولي، دون أن نعتمد عليه كثيرا. وقد استطعنا أن نكتسب صداقة فرنسا، فأصبحت مصالحها بالمغرب محفوظة، وهذه قوة لنا، أما إذا واجهناها فسيكون الرأي العام الدولي ضدنا. والقول بأن الشمال الإفريقي وحدة لا تتجزأ هو قولنا نحن معشر المغاربة، أما الرأي العام الدولي فإنه يحسب المغرب وتونس دولتين كاملتي السيادة، في حين لا زال يعتبر الجزائر جزءا لا يتجزأ من فرنسا. والحقيقة أن الرأي العام لا يؤمن بما تقوله فرنسا، كما لا يؤمن بما نقوله نحن، وحقيقة الأمر عنده أن للفرنسيين مصالح بالجزائر، وبها نحو مليون من الحاملين للجنسية الفرنسية. إن الجزائر أمة تناضل عن حريتها، وجميع الأمم تنتظر أن تنتصر لكي تقيم الحجة على حيويتها، فتسارع إلى الاعتراف بوجودها. وربما ستكون أمريكا أول من يعترف بالجزائر بعد انتصارها العسكري. ولن يتخلى الرأي العام الدولي عن التدخل في مصير المليون فرنسي، إلا إذا اتخذت الجزائر موقفا كموقف المغرب. فمن مصلحة المغرب أن يحتفظ بصداقة فرنسا، دون أن يتنازل عن العمل على وحدة الشمال الإفريقي، وله كل الحق في أن يساعد الجزائر في سائر الميادين. وليس في وسع المغرب أن يفعل أكثر مما فعل، سيما وهو لا يزال مجردا من السلاح أو يكاد، وليس له من الاستقلال إلا خطوطه الرئيسية الأولى.
والصواب مع الأمير إلى حد بعيد فيما يرجع للاضطراب الحاصل في مؤسساتنا السياسية. وإذا راجعنا هذه المؤسسات لم نجد ما يمكن إصلاحه منها إلا حزب الاستقلال، أما الهيآت الأخرى فتأثيرها ضعيف سواء في الداخل أو الخارج. والعيب الذي في الحزب هو أنه بحاجة إلى التطهير من العناصر المتقنعة بقناع الوطنية. فإذا فعل ذلك، كان الأداة الصالحة للسير بالمغرب في الطريق الصعب حتى يتمكن من الإجهاز على رواسب الاستعمار، ويتمكن من بناء مغرب فتي متناسب مع الثورة النفسية التي يوجد عليها شباب المغرب وعناصره الصالحة. وسموكم، أيها الأمير، من أقوى العناصر في تثبيت قدم الاستقرار، لذا فإن وجودكم بالمغرب أصبح اليوم ضروريا ومفيدا، لكي يجد المواطنون الرجل المحترم ذا السمعة الطيبة الذي يترفع عن المنازعات الحزبية. وإذا تحقق هذا الرجاء، ووجد رجال كبار على مسرح الحياة المغربية يتميزون بالحياد، ولا يتأثرون بالحزبيات، فإن الصراع بين الأحزاب سوف يخف إن شاء الله.
قال الأمير: كم بودي أن أعود إلى بلادي ومسقط رأسي، وكنت آليت على نفسي ألا أعود إلى المغرب إلا بعد أن يتم استقلاله. وعلى كل حال، فإنه إن لم يستقل من جميع الوجوه، فإنه ابتعد عن الأخطار التي أشرتم إليها، وثقتي بالله عظيمة في أن يرشد المغرب إلى العمل على استكمال سيادته، وهذه البوادر تحملني على الاعتقاد بأنني إذا رجعت إلى وطني فإنني سأكون بارا بقسمي، موفيا بنذري. فقد ارتفع الحكم المباشر، وأصبح الأمر بيد المغاربة، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساؤوا فعليهم. وأرجو أن يكون رجوعي إلى المغرب قريبا بواسطتكم يا سعادة السفير. وقد علمت من الأنباء التي تنشرها الصحف أنكم عما قريب سترجعون إلى المغرب، بحول الله، لحضور مؤتمر السفراء المغاربة الذي سينعقد بالرباط في الشهر المقبل. وعسى أن تعملوا مع صاحب الجلالة حتى أرجع إلى وطني، ولي من الضمانات ما يخفف عني أتعابي النفسية، سواء فيما يرجع لمقاومة بقايا الاستعمار التي تحد من حرية المغرب في العمل، أم فيما يرجع لحريتي الفردية، وأمن أصحابي على حقوقهم.
قال الطريس: أما أنا، فأصبحت متأكدا من أن وجودكم خارج المغرب لم يعد له معنى، وأن وجودكم بالمغرب مرتبط كل الارتباط بالجهاد المرير الذي عانيتم بأسه من لدن أكثر من ثلث قرن. فقد آن اليوم الذي ترون فيه نتيجة جهادكم وجهاد من خلفكم في الميدان. وما يقال من أن سموكم لا تستطيعون احتمال التصرفات الناتجة عن الصعوبات الأولى، فإن سعة نظركم وتقديركم لمشاكل الطور الجديد الذي دخل فيه المغرب سيكونان كفيلين بالعمل على الانسجام بين وجودكم وما توحي به ظروف الوطن من الحيطة والحذر والتيقظ للمناورات والدسائس. فمن واجب أي مواطن أن يضحي ببعض حرياته وبعض مصالحه، وحتى بعض آرائه إذا كانت سلامة الوطن تقتضي ذلك. وأنا أفهم من وجودكم بالمغرب أنكم ستطلعون على الوضعية الحقيقية فيه، وستلمسون حاجياته عن قرب، ولن يكون صديقكم إلا من يعمل لخير المغرب، وكل مشكوك في تصرفه أو متلاعب بالنار أو راغب في أن يتوصل إلى قصد دنيء بواسطة التقرب إليكم، فإنه سيكون من ألد أعدائكم ولا شك. إنكم، أيها الأمير، في ضيافة الأمة المصرية الكريمة وحكومتها الموفقة، فأنتم عند أبناء عمكم، وبين الذين يقدرون جهادكم وتضحيتكم. وقد سعينا جهدنا في إيوائكم ببلاد الكنانة وكنا موفقين. وأتى وجودكم في مصر بثمره الطيب، فقد تعلم أبناؤكم وشغلوا مكانا بارزا في الحياة العربية، وصاروا رجالا معتمدين. ومن فضل الله علينا جميعا أن نرى سلائل المجاهدين ببلاد الريف يعملون في حقل العروبة الواسع. هذا كله واقع، ومع ذلك فإن كرامة المغرب الحر المستقل تأبى عليه أن يترك بطلا من أبطاله يعيش على حساب غيره. فإن وطنكم يوجب على نفسه أن ينعمكم بخيراته، وأن يعترف لسموكم بالسعي المشكور الذي قمتم به في سبيل حريته واستقلاله. ولن نرضى نحن المغاربة المناضلين أن تبقوا في نفس الوضعية التي كنتم عليها من حرمانكم من دياركم وأموالكم ومراتع طفولتكم، فإن بني ورياغل مشتاقة إليكم مثلما أنتم مشتاقون إليها. فاغرورقت عينا الأمير بالدموع، وقال بصوت خافت: أرجو أن يكون لسعادتكم الفضل في رجوعي وأخي إلى الوطن الحبيب. وما رجوعنا بالشيء الممتنع. وأرجو أن نعمل لصالح المغرب أكثر مما نقول، حتى يعلم الذين لا يعلمون أن محمد بن عبد الكريم لا يزال في وسعه أن يعمل لخير الوطن، ولتوحيد الكلمة، والقضاء على النزاعات المحلية، وجعل الوطنية المثلى الغرض الأقصى. ثم قال الأستاذ الطريس: لقد لذ الحديث مع سموكم، وأرجو أن تشرفوا منزلي بالقاهرة حتى تحصل بكم البركة وتدعون فيها لأبنائي، ولا شك أن دعاءكم مستجاب. فابتسم الأمير وقال: سأحضر إن شاء الله، على أني في حمية لا آكل إلا تحت إرشاد الطبيب، وكل ما أستطيع تناوله قطعة من فرخة مطبوخة بالماء وقليل من الملح، فعلى هذه الوتيرة أعيش من لدن وقت ليس بالقصير. وتحدد الموعد على أن يكون يوم الأحد (23 يونيو1957). ونظر الأستاذ إلى الساعة وقال: أيها الأمير، أمامي موعد قد اقترب، فأستأذنكم في الانصراف. وابتسم سموه، وخرجنا، فوجدنا أبناء الأمير وأخيه، فسلموا علينا بأدب واحتشام. وعانقنا سمو الأمير وأخيه، وركبنا السيارة، ورجعنا إلى الزمالك، فقضى السفير بعض حاجاته، وانتقل إلى قصر عابدين لحضور سمسرة مالا تحتاجه الدولة من تركة الملك فاروق الأول الذي أطيح به إثر قيام
الثورة.